د. رفعت السعيد ابتداء نقرر أن مثل هذه المساحة لا تكفي لحديث مفصل عن قضية تتسم بالتعقيد كهذه, لهذا نستأذن في أن نكتفي بإشارات موجزة معتمدين علي أن الجميع شركاء في الإحساس بوطأة المسألة بما يمنحهم القدرة علي التلقي الذكي. إن عبارة وصول الدعم لمستحقيه تفتح الباب أمام تساؤل بسيط ولكنه ضروري, وهو من يستحق الدعم؟ وهنا يتعين أن نتفق أولا علي تعريف لكلمة الدعم, وأنا ممن يعتقدون أن الدعم هو ذلك الذي يسد الفجوة المتسعة التي تزداد اتساعا بين الأجر أو الدخل, والقدرة علي توفير المتطلبات الضرورية التي تمنح المستحق له القدرة علي أن يحيا حياة مستقرة وإنسانية. وهنا نكتشف أن الكثيرين جدا يستحقون ما يسد هذه الفجوة, فحتي كبار الموظفين والشرائح التي اعتادت علي مهابة الموقع والمنصب كأساتذة الجامعات, والقضاة, والأطباء, والمهندسين, والجمهرة الغالبة من الصحفيين, وكثيرون غيرهم يعانون معاناة جدية ومؤلمة من هذه الفجوة المتسعة التي تزداد اتساعات بين الدخل والحاجات الضرورية. ولعل هذه الفجوة ناجمة عن معادلة خاطئة هي الأساس في تفاقم المشكلة, فالجميع يشترون السلع والخدمات بالسعر العالمي, ويتقاضون رواتب وفق العرف والمنطق المصري, وتمثل هذه المعادلة المفارقة الأساسية في الموضوع, فأي شخص منا يشتري السلعة أو الخدمة بذات السعر الذي يشتريه بها المواطن الفرنسي مثلا. لكن المواطن الفرنسي الأستاذ الجامعي أو الصحفي أو القاضي أو الطبيب أو العامل يحصل علي أجر يساوي علي الأقل عشرين ضعف قرينه المصري أو حتي أكثر. ومثل هذا الخلل لا تحله الجرعات المخففة, فإعطاء منحة أو بدل إضافي أو زيادة جزئية في الأجر تبدو كمحاولة لعلاج مرض خطير بقرص أسبرين, فزيادة الأجر سرعان ما يتلهمها ارتفاع الأسعار الذي يتفاقم وبلا ضابط. وليس صحيحا ما يقوله بعض المسئولين من أن النظام الاقتصادي المطبق لا يسمح بأي تدخل في عملية التسعير, فكل المجتمعات الرأسمالية تتدخل إذا ما وجدت ضرورة ملحة, أو تصاعدا غير منطقي في الأسعار, ولدي أي نظام أدواته ووسائله لتحقيق ذلك. والنتيجة العملية لذلك هي ما نشاهده الآن من مطالبات تتطور من المطالبة التي لا يصغي إليها أحد, ثم إلي الإلحاح في المطالبة فلا يصغي, ثم الإضراب أو الاعتصام فيستجيب من لم يستجب منذ البداية. وهنا يتعين علي أن أحذر وبصدق من أن ما نشاهده الآن هو مطالبات فئوية لكن تكرارها لا يعني فقط المزيد من تحرك فئات أخري, فقد يعني التحول من الفئوي إلي المجتمعي, وأكتفي بهذه الإشارة التي أعتقد أنها كافية لإيقاظ من لم يستيقظ بعد. لكن المفارقات لا تنتهي, فالمعادلة التي تحدثنا عنها في السابق تأتي معكوسة بالنسبة لكبار أصحاب رءوس الأموال, فهم مثلا يحصلون علي الطاقة بالسعر المدعوم ثم يبيعون بالسعر العالمي, فيكون هامش الربح المتحقق هائلا وفوق كل هامش في أي اقتصاد رأسمالي آخر. والأمر هنا ليس مجرد خطأ اقتصادي, بل إن له تداعيات اجتماعية ومجتمعية شديدة الخطر, فالثروات المتراكمة بكثرة غير محدودة لدي البعض من كبار المستثمرين أوجدت فجوة هائلة في نمط الحياة بين أعلي شرائح الطبقة الوسطي ومتوسطي الأغنياء وحتي كبارهم, وبين هذه المجموعة التي تتباهي وتتسابق في التباهي بما تنفق وما تمتلك فتثير حفيظة الفئات الوسطي الذين هم صمام الأمان في أي مجتمع. كمثال علي ذلك أن الخصخصة أصبحت هدفا مقصودا لذاته وليس مصلحة يتوخي النظام تحقيقها, فمصانع الأسمنت مثلا جرت خصخصتها جميعا دون تأن, فانتهي الوضع إلي ما نحن فيه, فالأسمنت هو أكوام من تراب يتحول بفضل كميات هائلة من الطاقة إلي سلعة غالية الثمن, والطاقة تقدم مدعومة, والنتيجة هي أن المستثمر في الأسمنت إذ يبيع سلعته بالسعر العالمي كما يحدث الآن, يحقق ربحا سنويا قدره80% من إجمالي رأس المال, وهذه النسبة تصل إلي درجة الجنون, ولا تتحقق بل ولا يسمح لها أن تتحقق في أي بلد رأسمالي, ويقال ردا علي هذه الملاحظة: إن تطوير هذه المصانع كان يحتاج إلي عدة مليارات, والإجابة أن المشترين اقترضوا من البنوك هذا المبلغ ولم يدفعوها من جيوبهم, فلماذا لم تفعل الحكومة ذلك؟ وحتي لو لم تفعل ذلك فلماذا لم تستبق لنفسها نصيبا يمكنها من توجيه التسعير أو حتي المشاركة في الأرباح الهائلة؟ ونحن نحدد شرائح الضرائب بصورة مثيرة للدهشة, ولعلها تتم تحت ضغط من يستطيعون الضغط, فالذي يكسب40 ألف جنيه في السنة يدفع ذات الشريحة التي يدفعها من يكسب مليارات, ناسين أن40 ألف جنيه تعني أكثر قليلا من مائة جنيه في اليوم, وهو ما قد يكسبه سائق تاكسي أو ميكروباص فكيف يدفع ذات الشريحة التي يدفعها كبار كبار المستثمرين, ويجري الآن ترتيب أن يتم ذلك أيضا بالنسبة للضرائب العقارية, فهل هذا منطقي؟ وهل يحدث هذا في أي بلد رأسمالي آخر؟ وخلاصة ما أريد أن أقول: إن هناك فئات عديدة وواسعة العدد والتأثير تحتاج إلي تغيير جذري في أجورها, وإلي تدخل جدي لتثبيت الأسعار, وذلك حتي تضيق الفجوة بين أجورها وحاجاتها الفعلية. وأيضا نحن نحتاج إلي نظام معقول للدعم, فمن يريد أن يبيع بالسعر العالمي عليه أن يشتري كل مدخلات عملية الإنتاج بالسعر العالمي, ونحتاج إلي نظام ضرائبي تزداد فيه الشرائح بحيث يدفع كبار الكبار ما يتعين عليهم دفعه, ونحتاج بعد ذلك إلي نظام متقن يميز مثلا بين من يمتلك طائرة وعشر سيارات قيمة كل نوع منها بالملايين ومن يمتلك سيارة128 متهالكة لكنها ضرورية له, فكيف يدفع الجميع ذات السعر للبنزين, وربما يتحقق التوازن عبر مضاعفة رسوم الترخيص عديدا من المرات, وأخيرا نحتاج إلي أن نخصص الدخل المتحقق من تلك الإجراءات للدعم والفئات الأكثر احتياجا ولا نتركه كي تلتهمه الموازنة العامة. هذه بعض المقترحات, لكن هناك الكثير يتعين القيام به لتحقيق التوازن المجتمعي بهدف تحقيق الاستقرار المجتمعي. عن صحيفة الاهرام المصرية 29/12/2007