لم تتغير مواقف, وآراء الدكتور جودة عبد الخالق قبل ثورة25 يناير, وبعدها.. هو كما هو, منحاز للفقراء, مؤمن بالعدالة الاجتماعية, رافض للفجوة الحالية بين الأجور والأسعار. ثائر علي الفساد بكل أشكاله وصوره! لكن الدكتور جودة الأكاديمي, والأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. ليس هو الدكتور جوده وزير التضامن والعدل الاجتماعي.. فقبل المنصب الوزاري كان يحلل, ويرصد, ويفسر, ولم يكن بيده قرار, ولا صلاحيات.. والآن أصبح قادرا علي صناعة القرار! أمام الوزير الآن ملفات شائكة: مافيا القمح الفاسد.. أثرياء الدعم.. أباطرة توريد السلع التموينية.. انفلات الأسعار.. رغيف الخبز.. والعدل الاجتماعي.. فهل يستطيع أن يحقق في6 أشهر- هي عمر الوزارة الحالية- ما عجز عن تحقيقه, وزراء متعاقبون في سنوات.. ذهبنا إليه في منزله.. فتحنا معه كل الملفات.. وإليكم التفاصيل: شهدت الشهور الماضية جدلا كبيرا, حول بقاء منظومة الدعم.. أو إلغائها.. فكيف ستتعامل مع هذا الملف الشائك؟ الوزير: بداية نحن نعلم أن الدعم عرض لمرض.. وتسألني عن المرض فأقول أنه تآكل القاعدة الإنتاجية للاقتصاد المصري, واستفحال القوة بين الدخل والثروة, وانفلات الأسواق في ظل ما يسمي بالفكر الجديد للحزب الوطني, وفي إطار رأسمالية المحاسيب.. ومفهومها: شيلني.. واشيلك! وقد نتج عن هذا المناخ, أن الزراعة أصبحت غير قادرة علي الوفاء باحتياجات المصريين, كالقمح, كما زادت الفجوة بين من يملك.. ومن لا يملك.. هناك تفاوت صارخ.. وهذا يستدعي أن هناك فئات اجتماعية عديدة لا يتيح لها الاقتصاد وهي تعمل, أن تحقق الدخل الذي يفي بمتطلبات الحياة, وهنا تأتي مسئولية الدولة, وتكمن في الدعم, ولكي نتخارج من هذه المرحلة لابد أن نعمل علي زيادة الإنتاج, ونحقق عدالة في التوزيع, وتلك العدالة تحتم علينا أن ننظر إلي الأجور, والضرائب, والإنفاق علي الخدمات العامة, فنحن نرث تركة من السياسات التي طبقت علي مدي30 عاما, وأساسها النهب المنظم لكل ثروات المصريين.. لكن لا مساس بالدعم حتي تتحقق منظومة العدل الاجتماعي! الدعم.. عيني أم نقدي؟ والحديث عن الدعم.. إلي أي مدي تتفق أو تختلف مع الأفكار المتعلقة بتحويله من دعم عيني إلي نقدي؟ يجيب: تحويل الدعم العيني إلي نقدي مستحيل في الوقت الحالي, خاصة إذا أخذت معطيات الواقع المصري في الاعتبار, ويسألني: كيف ستصل إلي العامل الأرزقي.. وغيره من الفئات التي لا يمكن الوصول إليها, وهم في النهاية مصريون, ولهم حقوق, ويستحقون الدعم, ولا تستطيع الوصول إليهم لتمنحهم الدعم النقدي.. وما لم نستطع السيطرة علي الأسعار, فإن ما نعطيه من دعم نقدي سوف يتسرب في شكل ارتفاع أسعار السلع, وذلك لا يعني أن ما كان أبدع مما يمكن, لكننا نستطيع أن نحسن, ونطور, ونبدع. المتلاعبون بقوت الشعب خلقت منظومة الدعم جيلا من الفاسدين, والمتربحين, من الدقيق المدعم.. فكيف ستواجه هذه الظواهر؟ المنطق يقول أن تتحمل الدولة الدعم من الموازنة العامة للدولة, ولكن في الحلقة الأخيرة من سلسلة الدعم, بمعني أن إنتاج الخبز يمر بعدة مراحل تبدأ بالمناقصات والمزايدات, لتوريد القمح سواء من الداخل أو من الخارج,, ثم يتم شراء القمح من الخارج, ومن ثم شحنه إلي مصر, ثم طحنه, وتوزيعه كحصص دقيق علي المخابز, والمخابز تحول إلي خبز, فنجد المخابز تحصل علي الجوال من الدقيق المدعم بسعر يتراوح بين15 و20 جنيه, في حين يصل سعر الجوال في السوق الي120 جنيه, وهذا يغري المخابز بالتلاعب في بيع الدقيق المدعم, بدلا من تصنيع الكمية المخصصة لها بالكامل, ولذلك فإن الدقيق يجب أن يكون له سعر واحد.. أما التلاعب فيمكن القضاء عليه, بأن تتدخل الدولة في الحلقة الأخيرة من الدعم, بحيث تتخلص من الإجراءات الحالية, وتشتري الخبز من المخابز, وتبيعه للمواطنين, وتتحمل فارق السعر في صورة دعم, باختصار يحجب أن يرقي رغيف الخبز إلي مسألة أمن قومي, ولابد من التفكير في إنتاج الرغيف المخلوط. رغيف الخبز تنفق الدولة مليارات الجنيهات من فاتورة الدعم علي رغيف الخبز, ومع ذلك لا تزال صناعته متدنية, فهل لديكم رؤية محددة لتحسينه؟ مع أن الرغيف يحظي بضجة كبري, إلا أن نسبته في فاتورة الدعم ضئيلة جدا.. فإذا كانت مخصصات دعم السلع التموينية في الموازنة العامة للدولة تقدر بنحو13 مليار جنيه, فإن مخصصات دعم رغيف الخبز لا تتجاوز نصف هذا المبلغ بأية حال, إذن الضجة المثارة حول الرغيف مفتعلة, لان هناك4 مليارات جنيه من الموازنة تذهب كدعم للمصدرين, وأجزم بأن المستفيدين من دعم الصادرات لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.. ولابد أن نميز بين دعم الفقراء, ودعم الأغنياء, فالأول حق للفقراء, و في هذا الصدد يقول الرسول: صلي الله عليه وسلم اعطوهم ما يكفيهم, وفي الفكر الإسلامي هناك حد الكفاية, وفي الفكر الوضعي الحديث هناك ما يسمي بالاحتياجات الأساسية, والحد الأدني للأجر, وكلها تصب في مجري واحد هو العدالة الاجتماعية.. نأتي إلي دعم الأغنياء, ويتمثل في دعم المصدرين, ويحصل عليه حفنة من رجال الأعمال أتاح لهم نظام رأسمالية المحاسيب أن يكسبوا بالشمال واليمين, ومن فوق, ومن تحت.. والقضية في الأساس هي قضية توزيع.. وحين كنت أتحدث عن قضية الإصلاح الضريبي, تكلمت عن ضريبة السعر الواحد, وأشرت إلي أن الكل يدفع20%.. والقانون لا يفرق بين من يحصل علي مئات الجنيهات, ومن يحصل علي الملايين, الكل يدفع نفس الضريبة بالمعيار النسبي, وكأني أدعم الأغنياء في مواجهة الفقراء, ولاشك أنه عندما نطبق نظام الضريبة التصاعدية, فسوف نقضي علي خرافة نجيب منين؟! العدل الاجتماعي.. حقيقة أم شعار؟ لقد طلبت تغيير مسمي الوزارة إلي وزارة التضامن والعدل الاجتماعي.. فكيف ستحقق هذا المفهوم ليصبح حقيقة علي ارض الواقع, وليس مجرد شعارات؟ في التطبيق لابد من وضع حد أدني للأجور, وحد أعلي لها, بحيث تكون المسافة بين الاثنين في الحدود المقبولة, ولابد من الأخذ بنظام الضريبة التصاعدية, وزيادة الإنفاق علي الخدمات الأساسية, ولعلك سوف تتعجب إذا قلت لك أن معدل الدخل في مصر أعلي من الصين والهند, لكن أنت في بلد يعيش علي بيع الموارد الطبيعية, وبيع الغاز, والبترول, والأراضي, وريع الموقع.. ولذلك نحن بحاجة إلي زيادة الإنتاج, والتوسع في الاستثمار الصناعي, والزراعي, ومن ثم تتحقق العدالة الاجتماعية, وكذلك من الضروري تكثيف الرقابة علي الأسواق, لمواجهة عمليات التلاعب في الأسعار! مافيا التوريد والاستيراد قلت: حدثت مخالفات كثيرة في عمليات استيراد القمح, كما أن هناك فساد في توريد بعض السلع التموينية المدعمة كالأرز.. فما هي خطتكم لمواجهتها؟ الوزير: السمكة تفسد من رأسها.. وفي الوضع السابق, كانت هيئة السلع التموينية هي المصرح لها حصريا باستيراد القمح من الخارج, وشرائه من الداخل, بدعوي السوق الحر, وهذه كانت الأفكار الجديدة التي كان يطلقها الحزب الوطني, القطاع الخاص يستورد القمح, وهيئة السلع تطرح مناقصات لتوريد القمح.. ومن هنا أصبحت هناك مافيا.. والكل يجمع علي ذلك, وفي السابق كان الاستيراد يتم من خلال نظام حكومي به فساد لكنه محدود, فالهيئة تتابع أسعار القمح في البورصة, وتختار الشركات, ومن ثم كانت الشركات تستورد قمحا غير صالح للاستهلاك الآدمي.. وقلت لرئيس الوزراء الدكتور أحمد شفيق حين طلبني قبل إعلان التشكيل الوزاري: لقد تناولت خبزا في مدينة فايد بمحافظة الإسماعيلية, لا يمت للدقيق بصلة.. وطلبت إليه أن تعود الخفافيش إلي جحورها, وأن تعود هيئة السلع التموينية إلي دورها الطبيعي في استيراد القمح لمواجهة مافيا الفساد. انفلات الأسعار تشهد الأسواق المصرية حالة من الفوضي السعرية, والعديد من التجار يتلاعبون بها كيفما شاءوا.. فهل لديكم توجهات محددة لضبط إيقاع الأسعار؟ د. جوده عبد الخالق: موضوع الأسعار معقد, لكن إذا أخضعته للمنطق الاقتصادي والسياسي, تقل درجة تعقيده, وعلي افتراض أن كل شيء سليم, ولا يوجد فساد, فإن جزء من معضلة ارتفاع الأسعار يتعلق بتقلص الإنتاج, وتراجع قيمة العملة المصرية أما العملات الأخري وفي مقدمتها الدولار, زمان- مثلا- كان سعر الدولار الأمريكي340 قرشا, وفي بعض الأحيان وصل الدولار إلي7 جنيهات, وبالتالي لابد أن تحمي اقتصادك من تأثير ارتفاع قيمة العملة الأجنبية, ولابد من زيادة الإنتاج المحلي.. فقوانين العرض والطلب, مثل قوانين الطبيعة أو الجاذبية, ولا يوجد اقتصاد بالأمر المباشر, والاقتصاد له آليات, وإذا أردت التحكم في الأسعار, فعليك أولا أن تتحكم في العرض من خلال تعظيم الإنتاج, وضبط الأسواق, وكذلك التحكم في الطلب, من خلال تحقيق العدالة في التوزيع. الرقابة التموينية هل ستعيد إلي مفتش التموين دوره الفعال في الرقابة علي الأسواق, ومواجهة جشع التجار؟ وزير العدل الاجتماعي: هذا السؤال يجب أن يطرح علي المنظومة الوزارية بالكامل.. فلتسال وزير الداخلية في انحرافات عسكري المرور.. وزير التعليم في أداء المعلمين وتفشي ظاهرة الدروس الخصوصية.. وهكذا, فمفتش التموين جزء من كل.. وهناك خلل رهيب في منظومة الأجور, ولا علاقة لما يحصل عليه الناس من أجور في ظل انفلات الأسعار, ولا يجوز الصمت علي هذا الخلل في منظومة الدخول والأسعار, ولذلك لابد من تحقيق العدالة الاجتماعية, كما أن الحد الأدني للأجور لابد أن يوضع علي جدول الأعمال, ولابد من تقليل الفجوة بين أقل أجر, وأعلي أجر, وهذا يتجاوز وزارة التضامن إلي منظومة الوزارات في الحكومة بالكامل.. ومن هنا لابد أن نزيد الإنتاج, ونحقق العدالة في التوزيع, فجزء من الفساد ناتج عن خلل في الأجور. الملفات الشائكة تعلم أن هذه الحكومة انتقالية, كما أنها لن تدوم لأكثر من ستة أشهر.. فهل تستطيع خلال هذه الفترة القصيرة, الانتهاء من كل الملفات الشائكة بالوزارة؟ الوزير: عندما اشرع في العمل, سوف أطلع علي كل الملفات, واستعين بمسئولي الوزارة, فالمؤكد أنهم يعرفون الكثير, وهناك مستشارون, ووكلاء وزارة, ووظيفة الوزير هي التقدير السياسي, والوزير هو الدماغ السياسي الذي يحرك, ويرسم السياسات, ويتابع تنفيذها, وهناك أساسيات فنية كالنقل, والتموين, والتعليم, والصحة, وليس مطلوبا من الوزير أن يفهم كل التفاصيل الفنية, وفي ظل ثورة23 يوليو تحول الوزير إلي كبير موظفين! علي أجندة الوزير ما هي أولوياتك خلال الفترة التي ستقضيها في هذه الوزارة؟ هناك بعض الأهداف التي يمكن تحقيقها, ومنها ضرورة تعديل مهام هيئة السلع التموينية, من خلال إعادة النظر في نظام توريد الأقماح, اللازمة بالتبعية لإنتاج الخبز, ولابد أن تتدخل الدولة في في الحلقة الأخيرة من سلسلة الدعم, ثم العدل الاجتماعي, ولابد من تحقيق التناسب بين الجهد المبذول, والعائد علي هذا الجهد, وهناك طرق لقياسهما. لقد توليت المنصب في مرحلة حرجة ودقيقة.. وعمر هذه الوزارة قصير. فهل أنت مستعد لقبول التحدي.. والمساءلة إذا أخفقت؟ بالطبع.. فالمنصب مسئولية كبيرة, وأنا قبلت التحدي.. ومستعد للحساب إذا أخفقت.. فلا أحد فوق المساءلة.