ما حلمت يوماً أنني زهرة. مع ما عشقت الزهور منذ طفولتي. عشقاً رافق سنوات العمر. كانت الورود فيها صحبتي المفضلة. يرتاح قلبي لجمال منظرها. وتسمو روحي بعبق عطرها. تمنيت أن أكون عصفوراً رقيق الجناحين. يرتفع فوق الأرض محلقاً في السماء. يرفرف بين السحابات البيضاء. ويغرد أغاني الحب والخير والحرية. كانت روحي دائماً حائرة. هائمة شاردة. ترنو نحو أفق بعيد. مثل شاطئ مستحيل الوصول إليه. وكانت ومازالت نفسي متعبة مشتتة. مثل سفينة كتب عليها أن تظل في إبحار متواصل. بلا ميناء ترسو إليه. وكانت في حديقة البيت شجرة وحيدة. جذبتني صغيراً بظلالها الوارفة. وجذعها العجوز النابت من بطن الأرض. يرفعها في صبر نحو السماء. وتحت الشجرة عشت طفولتي. تعرفت إلي نفسي ومن هناك عرفت الحياة. صادقت الطيور التي بنت أعشاشها بين الأغصان. فرحت بالأوراق المتساقطة كل خريف. وكانت شجرتي شاهداً علي أسرار حياتي. رويت لها كل التفاصيل.. وبكيت وأنا أسند ظهري إليها. وكانت تستمع إلي أناتي. وتربت في عطف علي كتف أحزاني. كنت كلما ضاقت بي الدنيا علي ما رحبت. لا أجد صديقاً ولا ملجأ سوي شجرتي. شكوت إليها من الظلم. ومن سوء الفهم. ومن تدابير القدر. كانت شجرتي شاهداً علي أيام عمري. أحلام صبايا وجهل شبابي. وأحزان رجولتي. واستسلام شيخوختي. مرت أحداث حياتي كأوراقها المتساقطة. كل ورقة قصة. ابتسامة. دمعة. ذكري. ودون أن أدري حاولت أن أكون أنا شجرة. تحتضن من يحتاجها. وتمد أذرعها بالرحمة والحب لمن حولها. جعلت ظلالي مأوي من قست عليه الحياة. وثماري للذين يستحقون نعمة العطاء. لكن السنوات مضت. واصفرت أوراقي الخضراء. ولم تعد الأغصان ورافة ذات ظلال. فهرب كل من كانوا يستظلون بي. عندما نضبت الفروع وسقط بعضها. وأصبحت كل مواسمي خريفاً دائماً. بقيت شجرة البيت في مكانها.. أما شجرة حياتي فقد نالها الزمن وأصابها الهرم. جفت شجرة الحياة.. أصبحت شجرة وحيدة عجوز. لا تظلل ولا تثمر. ولا نفع فيها ولا فائدة سوي أن تقتلع جذورها الجافة. لتصبح حطباً. يدفئ حياة الآخرين!