سألنى والحزن يخيم على عينيه أين ذهبت السعادة.. لماذا رحلت؟!.. وذهب بعقله بعيدا.. ثم قال كأنه يروى حكاية عمر: «لحقت فى طفولتى بالريف المصرى الجميل وربوعه الخضراء التى تراها ممتدة فى الأفق، وهى مكونة من حقول الأرز (قبل أن تصبح زراعته مشكلة) والبرسيم (قبل أن يوضع فى كفة مع القمح) والقطن (قبل أن يعود قصير التيلة)، ولحقت بمواسم الحصاد وفرحتها وأغانى وأهازيج النساء والأطفال للرزق.. لحق جيلنا ببيوت الفلاحين المبنية بالطوب اللبن، وبالفرن الذى يخرج منه الخبز طازجا.. لحقنا برائحة زهور الياسمين والبرتقال، والخوخ، والفراولة والنعناع البلدى الحقيقى وهو مغطى بالندى فى الفجرية.. قبل أن تصبح زراعتنا بلا روائح وبلا مذاق، وتئن من تنوع وتعدد الأمراض.. من ذبابة الفاكهة إلى دودة الأنفاق. ارتسمت على وجهه ابتسامة، من يتذكر الأيام الحلوة من العمر، وقال: «كان البيت لجدى والد أبى، وكانت العائلة تجتمع به صيفا لقضاء الإجازة، تحيط به أشجار الجازورينا والكافور، وتتوسط حديقته شجرة توت كبيرة تجتمع عندها العائلة ساعة المغربية، وكنا نسمى شجرة التوت عزيزة، وكنا فى الطفولة نحتسى الضحك والسعادة قبل أن نعرف أن فى الحياة كثيرا من الآلام لتسحب منا ما اختزناه من ضحك وسعادة..». عاد الحزن إلى عينيه وهو يتحدث عن طفولته التى يشتاق إليها: «كان الريف بالنسبة لنا فى طفولتنا صورة لحياة الطبيعة البريئة والفطرية.. وقد راح كل هذا مع الزمن، رحل البيت الكبير، ورحل المرح، ورحلت الطفولة، ورحلت السعادة، ورحلت الأرض، برحيل الجدود والآباء، ورحل الريف الذى عرفته ببيوته التى بنيت بالطوب النيئ أو بالطمى، وحلت محلها مبانى الطوب الأحمر المشوهة، وأطباق الدش التى تشهد بالثراء أو تشهد بهجرة المصرى إلى الفضاء.. أو تعلن عن عودة صاحب المنزل من العراق أو من الخليج..». هل يصنع الألم الفلسفة..؟! تساءلت أنا هذه المرة عندما سمعته يقول: «كان فى ريفنا القديم هذا الفرن الجميل الذى يتغذى بالأخشاب، وتتوهج ناره بالحطب، أو بما تبقى من بقايا الذرة.. وكانت تلك الأفران تصنع مذاقا خاصا ورائحة خاصة للطعام ولم يعد الفرن البلدى موجودا، فالبوتاجاز أصبح فى متناول الجميع، ما عدا الأمبوبة.. فلا فرق، بوتاجاز بلا أمبوبة هو خط محمول بلا جهاز، وهو تليفون منزل بلا حرارة.. وهو تذكرة مباراة بلا مقعد، وهو قانون بلا مساواة، وهو كلام بلا نتيجة.. وهو حلم يبقى بعيدا ولن يكون حقيقة.. عاد إلى ذكرياته وتحدث عنها قائلا: «فى تلك الفترة الزمنية الجميلة القديمة التى كانت العائلة تجتمع فيها بالقرية، فى كفرالشيخ، تولدت بينى وبين الأشجار وألوانها وأزهارها علاقة حب وعشق، وكان ظل شجرة التوت العريضة أفضل من ألف جهاز تكييف، كان الظل يحمينا من حرارة الشمس، وكان ظلها كافيا لترطيب المكان.. وكنت أرى عزيزة شجرة التوت حانية بجذورها الضخمة والضاربة فى عمق الأرض وفى عرضها كأنها تربت على أكتافنا وهى تظللنا..». أضاف وقد لفه حزن نبيل: «مضت السنوات ورحل الأجداد والآباء والأقارب، ورحلت الأرض، ورحلت عزيزة، ولم يعد لنا هذا البيت فى الريف، لكن ظلال شجرة التوت لم تفارقنى وظلت فى خيالى، وأصوات أوراق أشجار الجازورينا وفحيحها، مازال يلازمنى، كما لم تفارقنى رائحة زهور الياسمين والبرتقال والنعناع البلدى فى الصباح الباكر.. تمسك حواسنا كل ما لمسته فى الطفولة مهما مضت السنين.. كيف تصاحبنا وتؤثر فى خيالنا وأفكارنا وسلوكنا وقرارتنا.. وتدفعنا إلى الحلم بعودة تلك الأيام ونحن نعلم أنها أبدا لن تعود.. هل ذلك ما يقولون عنه إن الإنسان يتذكر وهو فى الخامسة والخمسين كل ما كان فى سن الخامسة، وينسى ما جرى منذ خمس دقائق..». وقال: «الآن أدركت أننا كنا أطفالا نسبح وسط الأشجار.. تعلمنا أن السعادة أبسط بكثير مما نتخيل.. السعادة يمكن أن يصنعها لون حقول الأرز الخضراء التى تبدو مثل بحر ممتد بعرض الأفق.. السعادة قد تكون مخزونة فى رائحة ثمرة أو زهرة.. أو فى تسلق شجرة كافور عملاقة.. السعادة أن تراقب دورة الحياة والموت والكون فى شجرة خوخ أو مانجو.. تنمو فى الربيع وتنتج طعاما مختلفا فى ألوانه.. ثم تسكن فى الخريف، وتموت فى الشتاء، لتحيا من جديد.. وفى كل فصل ترى شكلا من أشكال الجمال.. ترى اللون الأخضر الشاب، وترى اللون الأصفر المختلط بالإحمرار كأنه ينذرك بقرب النهاية، كما تنذرك وهن خليتك وضعف صوتك، وخطوتك البطيئة الثقيلة بتقدمك إلى الخط الأخير.. وهكذا ترى شجرة سقطت أوراقها وقد تحولت إلى كتلة من أفرع خشبية صماء وصامتة، وتظن أنها لن تحيا، لكنها تعود بأزهارها البنفسجية، وأوراقها الخضراء وثمارها الملونة المبهجة.. ولكل ثمرة مذاقها، وحجمها ولونها».. نظر إلى عينى بحزم وبعزم، كأنه يبلغنى برسالة وقال: «كانت الحياة وسط الفطرة والبراءة والبساطة هى السعادة.. كانت مراقبة تلك الدورة وتلك التغييرات هى السعادة.. كان نداء العصافير مع أول ضوء هو السعادة.. كان دعاء الكروان لحظة الغروب هو السعادة.. كانت نسمة الهواء العليل وضوء الشمس الناصع، ورؤية نجوم الليل تبث فى النفس كل السعادة.. هكذا عرفنا السعادة. تحت ظلال عزيزة شجرة التوت العملاقة وتعلمنا التسبيح للخالق سبحانه وتعالى فالق الحب والنوى.. أين ذهبت السعادة.. أين رحلت؟!».