يصدر فى العدد القادم من سلسلة " كتاب اليوم " الصادرة عن مؤسسة أخبار اليوم كتاب "مواقف العقاد السياسية " لوزير الثقافة د. محمد صابر عرب ، الذى يتناول في كتابه فكر العقاد السياسي من خلال مقالاته من الثورة العرابية إلي منتصف القرن العشرين . و يقول عرب : العقاد ينفرد فى وجدان الشعب المصرى بمكانة خاصة، حيث استوعب تراث أمته وهضم ثقافتها وعايش كل همومها لدرجة أنه صار ظاهرة فريدة فى عالم السياسة والأدب والفكر، حيث بدت كل ملامح النبوغ والتفرد فى شخصيته التى اتسمت بعصامية شديدة. عاش العقاد حياته بطريقة عجيبة فلقد توحدت فى شخصيته كل مظاهر العبقرية الإنسانية فلا يذكره الناس إلا مقترنًا برأى جديد أو فكرة نادرة أو موقف ينم عن صلابة لا تلين، ضاربًا عرض الحائط بما يشغل الكثيرين من مصالح شخصية ، العقاد لا يعرف أنصاف الحلول. و يتابع وزير الثقافة أن النشأة العصامية حددت ملامح فلسفة العقاد فى الأدب والسياسة والحياة، فلقد علَّم نفسه وخطا خطواته بثبات وعبقرية دون أن يستند إلى «واسطة» أو جاه ، عبقريته فقط هى التى دفعت به إلى مقدمة الصفوف. ومنذ أن عرف طريقه إلى عالم الصحافة والسياسة بدءًا من 1907 لم يهادن ولم يجامل ولم يساوم ، رافضًا كل العروض التى لا تتفق واختياره العقلى والمنطقى وفق رؤيته التى كانت ثاقبة أحيانًا، وبعيدة عن الموضوعية فى بعض الأحيان. و أعترف عرب أن شخصية العقاد بهرته ، فقد انشغل بكل شيء وشغل كل الناس وصار حالة مصرية متفردة. وسط الصخب والتطاحن نشأ عباس العقاد مدركًا منذ الوهلة الأولى قضية وطنه مستوعبًا تاريخه وجغرافيته ملمًا بشكل دقيق بكل الخيوط والتفاصيل ، ولعل أسوان بملامحها المصرية الدقيقة قد شكلت وجدان هذا الفتى الأسواني، فهى المدينة التى تتجسد فى ملامح أهلها كل مقومات الشخصية المصرية فهى بيئة مصرية خالصة، حيث يبدو نبض الحياة المصرية أكثر صدقًا وملامح الشخصية المصرية أكثر نقاء، وارتباط الناس بالنيل والشمس ونظرتهم إلى الشمال فى حالة من الترقب والتحفز الدائمين . فالحاكم يأتى من الشمال والقرارات التى تنظم أمور الحياة رهن بالشمال والكتاب والصحيفة والأخبار تأتى أيضًا من الشمال.فى تلك البيئة الصافية النقية نشأ العقاد وجمع تفاصيل قضية وطنه واستوعبها بوعى وإدراك شديدين. واللافت للنظر أن ما كتبه العقاد فى مجال الأدب والفكر والثقافة قد شغل الناس لدرجة أن التراث السياسى للعقاد قد أصبح وكأنه شيء هامشى لا يستحق الالتفات وصنف العقاد كرائد فى مجال الأدب والشعر والثقافة الإنسانية عمومًا، ولم يلتفت المؤرخون إلى أن الرجل كان له باع فى السياسة وكانت له معاركه التى شغلت مساحة كبيرة فى تاريخ مصر السياسي، وكانت من الأهمية لدرجة أن عددًا من الباحثين فى مجال الأدب قد شغلتهم هذه القضية وراحوا يدلون بدلائهم باعتبار العقاد رائدًا من روادهم. و أكد عرب أن الكثيرون لم يلتفتوا لكتابات العقاد الصحفية، بينما حظيت كتبه بقدر كبير من عناية مؤرخى ونقاد الأدب، وقد رأت دار الكتب والوثائق القومية أهمية جمع هذا التراث المتناثر فى الدوريات، منذ عام 1907، وهى البدايات الأولى لكتابات العقاد فى الصحافة، وهى كتابات قد اتسم بعضها بقدر من الحدّة، وهو ما يفسر عدوله عن كثير من تلك المواقف التى بدت متشددة، وخصوصًا فيما يتعلق برؤيته للآخر المختلف معه سواء فى الدين أو السياسة. وأعترف أن ما جاء فى المجلد الأول من مقالات يعد كشفًا حقيقّيًا لميلاد مفكر وأديب كبير، فكتابات العقاد السياسية خلال الفترة من 1907 حتى 1914 جديرة بأن يُعنى بها الباحثون فى حقل الدراسات التاريخية والسياسية، تلك الحياة العريضة الخصبة بصراعاتها وتدافعها تعد مجالاً لدراسات جادة. كما أكد صابر عرب أنه يصعب انسلاخ العقاد الأديب والمفكر عن العقاد السياسى، سواء فيما كتبه العقاد فى الفكر السياسى؛ أو حتى فى مواقفه التى عبّر عنها فى كتاباته التى بدت وكأنها تتسم بقدر من التناقض، إلا أن الدراسة الموضوعية لكل قضية على حدة تفسر كل ما يبدو متناقضًا. و فى كتابته عن العقاد حدد عرب ثلاث مراحل أساسية :الفترة من 1907 وحتى 1919، وقد اتسمت بقدر من الحيرة والقلق، فالثورة العرابية وما ترتب عليها من نتائج خطيرة كانت صورة حية فى فكر العقاد الذى ارتبط وجدانيًا بعرابى، لدرجة أنه رفعه إلى ما يشبه الأساطير، وأخذ يبرر كل مواقفه ويتهم منتقديه بالضعف والتخاذل، وهو ما باعد كثيرًا بين العقاد ومصطفى كامل. وعلى الرغم من أن الحياة السياسية المصرية فى بداية القرن العشرين قد اتسمت بالصخب والتدافع بسبب حركة مصطفى كامل الذى استطاع أن يميل إليه معظم الشباب، إلا أن العقاد بقى متفردًا فى موقفه رافضًا الانضمام إلى أى من الأحزاب السياسية القائمة وقتئذ . إلى أن قامت ثورة 1919 وما أعقبها من ظهور حزب الوفد وظهور العقاد كأحد فلاسفته الكبار، بعد أن راح يرصد تفاصيل الحياة المصرية بأسلوب المفكر والفيلسوف مؤيدًا لمصطفى كامل أحيانًا، ومنتقدًا إياه بمرارة شديدة فى أحيان أخرى، وخصوصًا فيما يتعلق بموقفه من الدولة العثمانية أو فى موقفه من فرنسا، التى كان يعول عليها كثيرًا. وتبدو مواقف العقاد، التى يفسرها البعض على أنها تحمل قدرًا من التناقض، حيث يتعاطف مع الحزب الوطنى أحيانًا ويهاجمه فى أحيان أخرى، يقرأ ما كتبه النديم بنهم شديد ويعترف بأنه تأثر به كثيرًا إلا أنه لا يتردد عن السخرية منه فى مواقف كثيرة. ثم تقع الحرب العالمية الأولى، ولايزال العقاد يرصد الأشياء بأسلوب الفلاسفة، ويعبر عن أفكاره بطريقة الحكماء وتمضى القضية المصرية إلى طريق مجهول وتقع أحداث ثورة 1919 التى هزت وجدان العقاد الذى خرج عن تردده وذاب بكل مشاعره فى أتون الثورة. لعل الفترة من 1919 وحتى 1953، تمثل مرحلة أخرى فى حياة العقاد، فالثورة قد قطعت عليه كل تردده، حينما راح يكتب مقالاته النارية التى أصبحت بمثابة منشورات ثورية تعبر عن المطالب الوطنية، لقد جمعت كتاباته بين السياسية العميقة، والحجج التاريخية والقانونية، التى عبرت عن ثقافة سياسية واجتماعية متقدمة، لدرجة أهلته لكى يكون معبرًا عن الثورة وأهدافها وتوطدت علاقاته بسعد زغلول، الذى أدرك إمكانات العقاد وطبيعة شخصيته المتمردة وحسه الوطنى الرفيع، فأنزله مكانة خاصة أهلته لكى يكون أحد المقربين لدى زعامة الوفد، حيث اطلع على تفاصيل السياسة المصرية واستوعب أسرارها مما عمق من رؤيته السياسية، وطبّع كتاباته بطابع الدقة ، فقد تجاوز الرجل خلال تلك الفترة مرحلة الكتابة فقط، حيث أصبح واحدًا من الذين يعول على رأيهم مما ضاعف من ارتباطه بسعد زغلول. وتبقى الفترة من 1935 وحتى 1952 مرحلة يبدو فيها وكأن العقاد قد تخلى عن دوره الوطنى والشعبى، حيث لم يدرك مصطفى النحاس طبيعة شخصية العقاد الذى رفض ما يعرف باسم الالتزام الحزبى، لذا وقع التصادم بين الرجلين حينما تعرضت القضية المصرية لكثير من المساومات التى بددت كثيرًا من نضال الشعب المصرى، ولعل معاهدة 1936 تمثل ترجمة عملية للواقع المصرى الذى اختلف كثيرًا عن سنة 1919، لقد كانت سلسلة الانقسامات التى تعرض لها الوفد بدءًا من خروج الأحرار الدستوريين وانتهاء بالهيئة السعدية ثم الكتلة الوفدية كل ذلك قد شكّل واقعًا سياسيًّا كان العقاد منخرطًا فيه . و قال عرب أن هذه المقالات التى تشكل بدايات العقاد الأولى، تعد كشفًا علميًّا عن تراث رجل يعد ظاهرة ثقافية وسياسية وإنسانية، لعلنا ونحن نقدم هذا العمل نكون قد قدمنا خدمة جليلة لوطن متحرق شوقًا نحو المعرفة، وفاء لرائد من روادنا الكبار الذين ملأوا حياتنا ثقافة وطموحًا ومجدًا.