صدر مؤخرا عن المركز الثقافي العربي رواية "الغابة النروجية" لمؤلفه هاروكي موراكامي، ترجمة سعيد الغانمي. تحكي الرواية قصة شاب جامعي يموت صديقه، فيعيش الموت كمفصل من مفاصل الحياة، وتتحول حياته الى اخيلة جنسية. ويكتشف ان الاشياء او الحدود بينها تتداعى ويختلط فيها الواقع بالخيال، والموت بالحياة والعقل بالجنون. يقول عناية جابر بجريدة "السفير" اللبنانية حين يكتب البطل غابة اخيلته، بعد عشرين سنة من حدوثها، يجد ان ما يكتبه هو ما يتذكره، وأن ما يتذكره هو ما يتمناه. من واتانابي إذاً الشاب الجامعي "البطل" وصديقه كيزوكي، شابان ترافقا منذ الطفولة، حتى اخذ الاخير قراره المفاجئ من دون اي تمهيد وانهى حياته بشكل محيّر، هو الشاب الموهوب، ذو الموقع المركزي في دراسته، بالاضافة الى جوانب في شخصيته حيوية وتهكمية (الى حد الغطرسة). كيزوكي الذي انهى حياته منتحراً، بدا في واقع السرد وفي استرجاعات الكاتب لفترة شبابه مع صديقه على طريقة ال«فلاش باك» متزناً، وفي غاية الانضباط العقلي مع ميل الى القيادة (قيادة صحبتهم الصغيرة مع صديقه واتانابا وصديقته ناوكو) وتوزيع الملاحظات والنكات وإدارة دفة الحوار بحيث لا يشعر به فتور، والسيطرة على مجريات الامور، والتمتع بموهبة فريدة في العثور على الأجزاء المهمة من احاديث الآخرين، ملقياً عليها الضوء بشكل يدعة محدثه وعلى نحو استثنائي الى الشعور بأن ما يقوله استثنائي، بل بالغ الاهمية. هذه الصفات الايجابية التي يطلقها الكاتب على صديقه ليست مجانية في السرد او محصلته، بل هي التمهيد الابداعي البوليسي على شاكلة الألغاز في كتب الجرائم البوليسية او في دفائن كتب علم النفس. يبدأ موراكامي بالتمهيد للكارثة، كارثة انتحار صديقه التي رافقته طوال السرد الهذياني حيث يختلط الواقع بالخيال، منذ اللحظة التي يلتف فيها على تعداد مزايا صديقه الايجابية بالقول: «مع ذلك فإنه كان انطوائياً قليلاً. كنت صديقه الحقيقي الوحيد في المدرسة. ولم استطع أبداً ان افهم لماذا لم يفتح، هذا المتحدث الذكي اللبق، مواهبه على العالم الاوسع حوله، بل بقي مكتفياً بالتركيز على ثالوثنا الصغير. كما لم استطع ان افهم لماذا اختارني لكي أكون صديقه». ويوضح عناية جابر انه الارجح ان موجة من التهكم الانتحاري غمرت السرد كله، حتى لنظن نحن القراء، بأن واتانابي الذي يتكلم عن حادثة الانتحار تلك التي ارخت بثقلها على حياته بعد ثماني عشرة سنة من حدوثها، كما لو انه هو الذي انتحر وغاب، ووجد بديل له، انغمس بلذائذ الرغبات والجنس وفن التنقل من فتاة الى اخرى في تباينات شعورية وفكرية وتحولات وتبدلات مليئة بالرحيل الدائم والاوقات المتغيرة التي حلت محل واتانابي الدمث والخجول في حضرة الفتيات والمنصرف كلياً الى دراسته وعمله. سرد منصرف الى جغرافيا الوهم، الوجوه والامكنة والاحداث، وسرد منه نوع الانتفاء من الذات الحقيقية بعد حادثة الانتحار. ذات كبيرة ملونة بالاخيلة الجنسية تحيا وتولد في كل صفحة، وتتقاطع وتتشاحن مع الذات «الصغيرة» الحقيقية. رواية موراكامي «الغابة النروجية» غير مشتبكة بالكامل بذلك الاستسلام للنمط الغربي في الكتابة، فثمة ما يردها احيانا الى اعمال اليابانيين الكبار كحالة التناسل تلك، تناسل الارواح بين واتانابي وصديقه المنتحر. سوى ان المعيار الجديد هو الذي يسود في الرواية وهو نظير كتابة بول اوستر وريتا دوف واسماء كثيرة بمعنى انها كتابة وسيطة بين الذات اليابانية، وتلك الغربية، وهي ذات مجروحة من اختلال العلاقة بالواقع ومن ملابسات رغبة الكاتب، او بطل الرواية في تلبس طبيعة صديقه المتوفى. على مدار السرد، نرى الى حكايات موراكامي مع نساء روايته، غير ان احداها لم تنته النهاية التي على ما نقول «طبيعية». بل جلها صعبة في تواصلها، كإشارة من الكاتب الى رغبته في عودة صديقه ليأخذ بيده الى «عالم» معرفة المرأة، واختراع كل تلك الاخيلة الجنسية، لا تقل وهماً وخرافة عن عودة صديقه من الموت.