بديل أفضل عن حرب مدمرة أو صفقة ثنائية محمد جابر الأنصاري طالما أن الإجماع ينعقد بين الدول المعنية في المنطقة على أن المواجهة العسكرية في الخليج بين إيران والجانب الأمريكي - “الاسرائيلي" ستكون حرباً مدمرة لا تبقي ولا تذر، سيعرف الجميع متى تبدأ، لكن لا يعلم أحد متى تنتهي، كما هو النزيف المفتوح في العراق منذ غزوه عام 2003 حتى اليوم بمضاعفات مقلقة على دول الجوار كافة. وبما أن الأطراف العربية خاصة تتخوف، في جانب آخر، من احتمالات “صفقة ثنائية" تتم من تحت الطاولة بين إيرانوالولاياتالمتحدة قد تكون على حساب الآخرين في الجوار، والمؤشرات بشأنها غير قليلة والحديث عنها يتصاعد، هنا على الرغم من لغة التخاطب العنيف في الظاهر بين الطرفين، كالحاصل بين سوريا و"إسرائيل" رغم المفاوضات الجارية بينهما. وكبديل ثالث أفضل، فربما كان من المناسب النظر في نموذج “منظمة الأمن والتعاون الأوروبية" التي توصلت إليها الأطراف المختلفة - وعددها خمس وثلاثون دولة تتراوح بين إمارة موناكو والولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفييتي في الحادي من أغسطس/آب 1975 وعرفت باسم “اتفاق هلسنكي". لقد كان هذا الاتفاق تمهيداً لإنهاء “الحرب الباردة" بين الجانبين في أوروبا خاصة، وإذا كان قد قام على أساس حفظ الأمن بين دوله في الجانبين، فإنه تضمن بنوداً واضحة لا لبس فيها بشأن احترام وحدة الكيان السيادي الاقليمي لكل دولة مشاركة، واحترام حدودها القائمة، والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية، وحل الخلافات بالطرق السلمية، ومراعاة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية كحرية الفكر والضمير والمعتقد، ونرى أن الاتفاق على هذه البنود والالتزامات والضمانات لا يقل أهمية عن المحور الأساسي وهو الأمن، لأنها عماد الأمن. والمطلوب في مشروع كهذا أن تلتقي الدول المعنية المرشحة لعضوية المنظمة الخليجية للأمن والتعاون في إطار من الشفافية والثقة التامة بحيث يطمئن الجميع ولا تبقى شبهة صفقات ثنائية بين أطراف على حساب أطراف اخرى. وسواء طال الزمان أم قصر، فإن وصول دول حوض الخليج إلى مشروع للأمن والتعاون كهذا أمر لا مفر منه، ويستحيل إلغاء طرف لمصلحة طرف إذا أريد استقرار وتنمية مضمونة دائمة لشعوب المنطقة، وإيران في الواقع هي المستفيد الأكبر من ذلك لتنمية مواردها الهائلة من نفطية وبشرية وثمة حديث بين مشروعات أخرى كثيرة عن مشروع هندي بقيمة 3 مليارات دولار لتطوير الغاز الإيراني، ولا يحتمل أن يتفق الجانبان على مثل هذا الاستثمار الهائل لو كانا يتوقعان الحرب غداً، ثم أن الهند اصبحت شديدة القرب من “إسرائيل"، وزيارة الرئيس السوري الأخيرة للهند - وبلاده تفاوض “إسرائيل" - تحمل دلالات لا يمكن تجاهلها. وليس من الواقعية البكاء على اللبن المسكوب، ولكن من المفيد التذكير بأنه لو كانت منظمة للأمن والتعاون بمنطقة حوض الخليج قائمة بين دوله قبل عقود، لما وقعت الحرب العراقية - الإيرانية المدمرة، وكارثة غزو نظام صدام لدولة الكويت، والاحتلال الأمريكي للعراق.. الخ. غير أن الأمم التي لا تستفيد من أخطائها مكتوب عليها تكرار تلك الأخطاء وإحراق اصابعها من جديد. وفي الدبلوماسية الحكيمة لا يتم استبعاد التناقضات، نعلم أن ايرانوالولايات التحدة على طرفي نقيض - ولو ظاهراً - في المصالح والسياسات والرؤية على مدى عقود، وللحيلولة دون صفقة “ثنائية" متوقعة لإنهاء التناقضات والاتفاق على تبادل المصالح قد تسمم العلاقات الإيرانية - العربية، فلا بد من جلوس الطرفين النقيضين على طاولة واحدة بحضور الآخرين في الجوار تحت سمع العالم وبصره، للتوصل إلى صيغة جماعية للأمن والتعاون في منطقة حوض الخليج وبمشاركة جميع دوله الأطراف في المثلث الخليجي من العراق إلى إيران إلى المملكة العربية السعودية وأشقائها بمجلس التعاون، وطالما أن الولاياتالمتحدة، بوجودها ومصالحها في المنطقة ستحضر، فلا بد من مشاركة القوى الدولية الأخرى كالاتحاد الأوروبي، وروسيا الاتحادية، إضافة إلى القوى الصاعدة في آسيا كاليابان والصين والهند وأية دولة في العالم لها ارتباط أو مصالح بهذه المنطقة الحيوية. وقد حان الوقت لنقل هذه الفكرة إلى حيز التنفيذ، هذا مع التحفظ في الوقت ذاته بشأن إمكانية وقوع مواجهة عسكرية نعتقد أنها لو وقعت فلا مخرج بعدها إلا بمثل هذا الجهد الدبلوماسي الحثيث الذي لا يستغنى عنه حتى بعد أن تسوء الأمور، وهو أمر لا يتمناه عاقل في هذه المنطقة، إلا إذا تعمدت جهة ما ذات مصلحة تخريبها وتسميم العلاقات العربية - الإيرانية التي يحرص الجميع على تنميتها على أساس من التفهم والتوازن، فضلاً عن ضرب مسيرة التنمية بمجلس التعاون خاصة، لئلا تبقى أية منطقة عربية بمنأى عن اللاستقرار، وبعض المراقبين يقولون إن “استعجال" “إسرائيل" هذه الأيام لتحقيق السلام مع سوريا و"التهدئة" مع حماس يقصد منه “تحييد" الجهات القريبة من العمق “الاسرائيلي" لتقتصر ضربتها لإيران - إن وقعت - على المنطقة البعيدة عنها نسبياً في الخليج لتخريبه، وذلك ما يشتبه أنها تهدف إليه. في الاتجاه الآخر وفي تصريح جديد لافت للانتباه والاهتمام، أدلى به سفير روسيا الاتحادية لدى مملكة البحرين فيكتور سميرنوف لصحيفة بحرينية، قال السفير الروسي “على الصعيد الخليجي.. أود أن أذكر انه منذ 2004 فإن روسيا تعرض فكرة الأمن في هذه المنطقة التي تقوم على خلق نظام للأمن المشترك بمشاركة أطراف من المنطقة ومن خارج المنطقة، وهذا يتطلب أيضاً أولاً حل تداعيات الكارثة في العراق، والوضع بشأن البرنامج النووي الإيراني؟ ومن ثم بناء الثقة ونظام للضمانات المشتركة في المنطقة، واخيراً عقد مؤتمر دولي للأمن والتعاون في الخليج، وإنشاء منظمة لذلك". وأعرب السفير عن سعادة روسيا لتبادل وجهات النظر حول هذه المبادرة “وهذا هو بالضبط الموضوع الذي نريد أن نتعاون بشأنه مع جميع أصدقائنا" - أخبار الخليج البحرينية، عبدالله الأيوبي - 12/6/،2008 ص 10. من الواضح أن السفير الروسي يطرح نموذج مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي الذي انعقد في هلسنكي بتاريخ 1/8/1975 وكانت له نتائج تاريخية إيجابية فيما يتعلق بمصير الشعوب الأوروبية وشعوب العالم. وقد سبق لكاتب هذه السطور طرح هذه الفكرة لنظام أمن جماعي في الخليج بمشاركة إيرانوالولاياتالمتحدة، إضافة إلى جميع الأطراف التي ورد ذكرها، رغم التناقضات القائمة بينهما، بل حلاً لتلك التناقضات، فالحروب لا تولد إلا المزيد من الخراب. عن صحيفة الخليج الاماراتية 26/6/2008