أشباح التيار الصدري زهير المخ يتبع التيار الصدري غموضاً يتأرجح بين الديني والسياسي وبين العسكري والبرلماني، وأساساً بين الاستمرار جزءاً من المشكلة والابتداء كجزء من الحل، بل بلغ هذا التيار في غموضه ذري غير مسبوقة وجدت معادلها في موقعه الحالي كطرف حكومي وغير حكومي في آن، والميل المستمر إلي اشتقاق الثانية من الأولي وكأنهما من جنس واحد. وإذ قال أحد قادته كلاماً ليّناً فهم منه الاعتدال والمرونة في البقاء تحت خيمة مؤسسات الدولة، قال واحد آخر من قادتها كلاماً متشدداً في الموضوع نفسه. ولم يكن بالمستغرب أن يقع هذا التيار في تلك الهرطقة القائلة إن مؤسسات الدولة هي التي ينبغي أن تتكيف مع القوي والأشخاص والبرامج، فيما تقضي الممارسة السياسية حكماً بتكييف القوي والأشخاص والبرامج مع العملية السياسية الجارية. وتتعقد اللوحة أكثر فأكثر عندما ندرك أن الحكومة المركزية في بغداد ظلت علي مدي السنوات الخمس الفائتة تتماهي، من حيث الخلفية الطائفية والحزبية، مع هذا التيار الذي تحول بدوره إلي مشكلة حقيقية لها، فهي لم تكن تستطيع تلبية مطالبه، ولم تستطع احتواءه وكان يصعب عليها إقناعه أو علي الأقل تنظيم الرقصة معه، أو حتي هضمه دون أن تصاب بعسر الهضم، فقد بات نفوذ هذا التيار المتصاعد تهديداً جدياً لهيبتها، بل تهديداً يومياً لشرعية نظامها السياسي في نظر المواطن العراقي الذي بات يشعر الآن أكثر من أي وقت مضي بالعطش إلي دولة، أي دولة تستطيع أن تلغي العنف وتحصره بها وتنظمه وتضع حداً لبعض أكلاف القتل والتهجير والاحتراب الأهلي بين العراقيين الذي قد يقضي علي ما تبقي من عيش مشترك ومن وطن جامع. لكن السؤال الذي ظل يحوم فوق الرؤوس دونما إجابة شافية هو: هل أن الدولة العراقية الجديدة التي يفترض أن تحتكر وسائل العنف المنظّم ، قد زادت علي العكس من حدّته وضاعفت من ضراوته؟ ويغدو السؤال مضنياً أكثر عندما يختفي شعار هدنة ال 14 نقطة الذي توصل الطرفان الحكومي والصدري في وقت سابق وراء المتراس الكبير من الحروب الصغيرة ما بين البصرة وبغداد والناصرية وكركوك، فتسأل أين عنف الدولة المقنن والمنظّم لوقف هذا المسلسل من القتل علي الهوية وحملات التطهير المذهبي؟ المفارقة هي أن الحكومة المركزية في بغداد، أو علي الأقل كتلة الائتلاف الشيعي، تسعي للحصول علي الشيء ونقيضه في آن معاً: فهي تحاول ترسيخ أركان الدولة لكي يصبح الانصهار الوطني علي أنغام الموسيقي ممكناً وسريعاً ولكنها، في الوقت نفسه، تريد الانعتاق منها، وتطمح في النهوض ببناء مؤسسة خارجة عن المجتمع تضع حداً لتناقضاته الدموية، وتمنع تحويل البلاد إلي حسينية كبيرة موشحة بأعلام سوداء. لقد كان حلم العراقيين بدولة تحتكر العنف وتطبق القانون شديداً لدرجة الاستعداد لتجاهل العصبية التي يخفيها الائتلاف الشيعي الحاكم في ثناياه، إلا أن هذا الائتلاف بدأ يفقد شرعيته كسلطة مركزية، بعد أن قامت الميليشيات الشيعية بإعادة المجتمع العراقي إلي ما قبل تأسيس الدولة الحديثة، وأرغمت المواطن العراقي علي الدخول الإلزامي في شبكتها الطائفية الضيقة. ازدواجية الولاء في تركيبة الحكومة المركزية في بغداد، أفرزت بدورها ازدواجية السلطة علي أرض الواقع، حيث ظلت تنشط مليشيا جيش المهدي التابع لمقتدي الصدر تنشط خارج إطار المؤسسات الشرعية. ووفر غياب سلطة مركزية حقلاً مثالياً للمليشيا الشيعية المسلحة هذه من توسيع سلطاتها، وتعميق حضورها، خصوصاً في مدن العراق الجنوبية، حيث باتت هذه المدن أشبه ب إمارات طالبانية أخري. فبالرغم من وجود المؤسسات الرسمية التابعة للدولة من قوات الشرطة وفرق الجيش العراقي، إلا أنه تم التحول في هذه المدن من حكم القانون المدني العراقي إلي حكم المليشيات الشيعية التي طورت مؤسساتها البلدية والثقافية والطبية والاجتماعية بعيداً عن مؤسسات الدولة الشرعية، حيث يقضي القضاة المعينون من قبل أتباعها بالنزاعات بين سكان هذه المدن، وتقوم لجان أمنية بتنفيذ الأحكام بالقوة. ومع أن المحاكم الشرعية (القانون الإسلامي) اختيارية ظاهرياً، فان الواقع المعاش في هذه المدن يوحي بغير ذلك تماماً. وكجزء من أسلمة الحياة في هذه المدن، أصدرت أوامر بفرض الحجاب علي النساء وبحظر بيع أجهزة الفيديو أو المشروبات الكحولية وإغلاق دور السينما حيث يتعرض منتهكو الأمر إلي الجلد العلني. ويقارن بعض المراقبين قضاة مليشيا جيش المهدي الشيعية الشباب بطلاب المدارس الدينية في باكستان الذين أصبحوا، فيما بعد، نواة حكومة طالبان الأفغانية، وقد دفع تطرف هذه الميليشيا بعض سكان هذه المدينة إلي الإعلان عن أن هذه الميليشيا أسوأ من نظام صدام . كما تحولت هذه الميليشيا مشكلة للقوات العسكرية العراقية خصوصاً مع تزايد الحديث عن خيط إيراني في تحركها، حيث تشير مصادر حكومية أنّ افتضاح خلايا المجاميع الخاصة التي تدعمها إيران بالمال والتدريب وبالأسلحة الهجومية الثقيلة والمتطورة كانت النقطة الأكثر حساسية في المباحثات، خاصة أنها كانت تتعلق بالاستخدامات الصاروخية والهاونية ضد المنطقة الخضراء. من هنا مأزق الحكومة المركزية في بغداد بالذات، أي تغليب الجزء الطائفي علي الكل السياسي من جهة، ودفاع غير مباشر لحق المليشيا الشيعية هذه التمسك بسلاحها من جهة أخري. أين المخرج؟ كثيرون هم العراقيون الذين يتطلعون إلي دور الدولة التي يفترض أن تحتكر العنف، فلئن استطاعت الدولة القيام بهذا الدور المناط بها أصلاً، رأي العراقيون بصيص نور في نهاية النفق، وإن لم تستطع، فالقلق سيبقي خبز العراقيين اليومي. عن صحيفة الراية القطرية 2/6/2008