مفهوم الدولة في الخطاب السياسي العراقي زهير المخ كان العهد الفيصلي بمثابة الولاّدة لدولة عراقية عصرية، لكن الانقلابات العسكرية المتوالية التي شهدها العراق منذ 1958 فتحت الباب واسعاً أمام فئات جاءت من مسارب العمل السري يربطها الانتماء المشترك، الطائفي والجهوي والعشائري، بالسيطرة علي جهاز الدولة دون أن تتخلي عن عصبيتها التقليدية، لكنها ما لبثت أن تركت المقعد الأول لفئات أخري ذات قاعدة ديمغرافية أوسع بمساعدة اليد الأجنبية، هي الأخري جاءت من مسارب العمل السري وتفتقر كسابقتها إلي تجربة العمل المؤسساتي، كما أن يدها مشبوكة بأكثر الانتماءات بعداً عن الهوية العراقية الجامعة. وبالفعل، فمنذ الأيام الأولي لعراق ما بعد صدام، قرعت الهويات القاتلة بعنف علي أبواب الدولة الجديدة معلنة هذا المستوي المقلق للعراقيين من صحبة الموت. ولئن كانت إطلالتها اقتحامية وكأنها تندفع لحجز مقعد في مكان فارغ تتسابق مع آخرين لاقتسامه، فقد بدا باكراً أنها تؤمن بأسلوب انتزاع الأدوار والمواقع عوضاً عن التنافس مع الآخرين للفوز بها، فيما وفر غياب سلطة مركزية حقلاً مثالياً لهذه الهويات من توسيع سلطاتها، وتعميق حضورها، في مزيج فريد ومثير بين طلب الجنة ورقصة الأبالسة في الجحيم. لقد أوحت ممارسات هذه الهويات بأنها قادرة أن تخيف أكثر مما هي قادرة أن تقنع، لكنها مع ذلك أظهرت قدرة علي الاستقطاب، ليس من خلال إتقانها استعمال سلاح اللاهوت في الإيديولوجية، بل لأنها بعثت لدي بعض التكوينات العراقية، خصوصاً الشيعية منها، شعوراً برفض الاستكانة الواقعية التي ميّزت بالإجمال التراث التاريخي لها وأعادتها إلي موقع شبه هامشي علي الخريطة السياسية العراقية. هل بالإمكان بناء الدولة العصرية إلي جانب الهويات القاتلة المعادية لشرعية مؤسسة الدولة؟ ربما نجد بعض عناصر الإجابة عند ابن خلدون الذي يؤكد أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء وأن وراء كل رأي منها وهوي عصبية تمانع دونها فيكثر الانتفاض علي الدولة والخروج عليها في كل وقت . لكن السؤال الذي ظل يحوم فوق الرؤوس دونما إجابة شافية هو: هل أن الدولة العراقية الجديدة التي يفترض أن تحتكر وسائل العنف المنظّم ، حسب التعبير الكلاسيكي للفيلسوف الألماني هيغل، قد زادت علي العكس من حدّته وضاعفت من ضراوته ؟ ويغدو السؤال مضنياً أكثر عندما تختفي الهويات القاتلة وراء المتراس الكبير من الحروب الصغيرة ما بين البصرة وبغداد والموصل وكركوك، فتسأل أين عنف الدولة المقنن والمنظّم لوقف هذا المسلسل من القتل علي الهوية وحملات التطهير المذهبي ؟ وتتعقد اللوحة العراقية أكثر فأكثر عندما ندرك أن الحكومة المركزية في بغداد تتماهي، من حيث الخلفية الطائفية والحزبية، مع هذه الهويات التي تحولت بدورها إلي مشكلة حقيقية لها، فهي لا تستطيع تلبية مطالبها، ولا تستطيع احتواءها ويصعب عليه إقناعها أو علي الأقل تنظيم الرقصة معها، أو حتي هضمها دون أن تصاب بعسر الهضم، فقد بات نفوذ الهويات المتصاعد تهديداً جدياً لهيبتها، بل تهديداً يومياً لشرعية نظامها السياسي في نظر المواطن العراقي الذي بات يشعر الآن أكثر من أي وقت مضي بالعطش إلي دولة، أيّ دولة تستطيع أن تلغي العنف وتحصره بها وتنظمه وتضع حداً لبعض أكلاف القتل والتهجير والاحتراب الأهلي بين العراقيين الذي قد يقضي علي ما تبقي من عيش مشترك ومن وطن جامع. لكن المفارقة هي أن الحكومة المركزية في بغداد، تسعي للحصول علي الشيء ونقيضه في آن معاً: فهي تحاول ترسيخ أركان مؤسسات الدولة لكي يصبح الانصهار الوطني علي أنغام الموسيقي ممكناً وسريعاً وتريد الانعتاق منها، وتطمح، في الوقت نفسه، في النهوض ببناء مؤسسة خارجة عن المجتمع تضع حداً لتناقضاته الدموية، إلا أنها تمثّل، في معظم الأحيان، توجهات الهويات القاتلة. ازدواجية الولاء في تركيبة الحكومة المركزية في بغداد، أفرزت بدورها ازدواجية السلطة علي أرض الواقع، حيث تنشط المليشيات الشيعية المسلحة خارج إطار المؤسسات الشرعية، فهناك علي الأقل ستة تنظيمات عسكرية هي: جيش المهدي التابع لمقتدي الصدر و قوات بدر التابعة ل المجلس الإسلامي الأعلي برئاسة عبدالعزيز الحكيم، وقوات عسكرية تابعة لحزب الدعوة وحزب الفضيلة و حزب الله و ثأر الله ، استطاعت جميعها تحويل البلاد إلي حسينية كبيرة موشحة بأعلام سوداء. لقد كان حلم العراقيين بدولة تحتكر العنف وتطبق القانون شديداً لدرجة الاستعداد لتجاهل العصبية التي يخفيها الائتلاف الشيعي الحاكم في ثناياه، إلا أن هذا الائتلاف بدأ يفقد شرعيته كسلطة مركزية، بعد أن قامت الميليشيات الشيعية بإعادة المجتمع العراقي إلي ما قبل تأسيس الدولة الحديثة، وعملت علي اختزال الشخصية السياسية العراقية إلي عنصرها الطائفي فحسب، وأرغمت المواطن العراقي علي الدخول الإلزامي في شبكتها الطائفية الضيقة، من قانون الأحوال الشخصية إلي الاقتراع، مروراً بالحصول علي وظيفة أو منصب سياسي. وإذا ما كانت الحرب من لذّة الفتي عند طرفة بن العبد، ولدي المليشيات شديدة الفتك التي لم تغادر حقّاً تعاليم الشاعر الجاهليّ الكبير، فإنّها، لا تنطوي علي أيّة قيمة نافعة أو فضيلة. فهي تدمّر المدن والحواضر، وتحول دون ولادة المواطن، إن لم تحلْ دون حياته. عن صحيفة الراية القطرية 7/7/2008