أنواع من الفراغ البابا شنودة الثالث تحدثنا في المقال السابق عن فراغ الوقت, وشيء من فراغ الفكر, وبقي أن نتحدث عن فراغ الشخصية, وفراغ الروحانية, وايضا عن الفراغ العاطفي. ** فراغ الشخصية نري في الحياة أناسا في ملء الشخصية, أي أن شخصية كل منهم مكتملة لكل عناصرها: إن تكلم واحد منهم يفيض لسانه نفعا وعذوبة, ويهفو الآخرون لسماعه مستفيدين بعمق كلماته وبحسن صياغتها, وإن استشاروه في أمر من الامور يجدوا عنده نبعا من الحكمة والارشاد, وإن عاشروا مثل هذا الشخص يروا فيه الرقة والحنان وحسن التعامل, والطيبة والاخلاص, وإن تولي هذا الانسان إدارة عمل ما, تظهر في ادارته الجدية والنزاهة وحسن التدبير.. انه في كل مايحيط به يمثل الشخصية المتكاملة الممتلئة بالخير والفضيلة, في حياتها وفي علاقاتها. غير أنه ليس كل الناس هكذا, فهناك من يتصفون في حياتهم بفراغ في الشخصية, فلا توجد في حياتهم قوة ولا إنتاج, ولا أي نفع للمجتمع الذي يعيشون فيه. بل إن حياتهم كلها فراغ: إن تكلموا فكلامهم مجرد ثرثرة لا تبني ولاتفيد, وقد يسأم الناس سماع مايقول, أو قد يتندرون علي ما في أقواله من أخطاء! وإن عاشروه يجدوا عشرته مجرد إضاعة للوقت, لا فائدة منها. فهو لا يبدي رأيا حكيما, ولايتدخل في حل مشكلة. بل قد يكون هو نفسه مشكلة يصعب حلها. وبالإجمال يحكم علي شخصيته بأنها تافهة. إن عدم المجتمع وجودها, فإنه لن يخسر شيئا. وإن غاب هذا الشخص عن اجتماع, لايشعر أحد بغيابه, وإن حضر لايضيف شيئا! قد يشعر مثل هذا الانسان بأن شخصيته فارغة لاقيمة لها في المجتمع, ولاثمر لها ولا تأثير. ولاتلاقي اهتماما من أحد. وهذا الشعور يسبب له لونا من صغر النفس أو المذلة الداخلية, وبخاصة لو كان الفشل يلاحقه, أو عدم الإقبال عليه سواء في موضوعات الزواج أو التوظف أو الصداقة! ويري أنه لاعمق له ولافكر ولامعلومات ولا جاذبية ولاشخصية ولاقوة!! وقد يصاب بعقدة النقص, إذ يحاول أن يغطي علي نقصه بنقص آخر! أو يعمل علي علاج فراغ شخصيته بفراغ آخر. إذ يحاول أن يثبت أنه ذو معرفة وفهم, وذلك بأن يتطوع للكلام فيما لايعرف, وإبداء الرأي في أمور لم يدرسها! ويدل بكلامه علي جهله. وقد يقابله الناس بالسخرية, فيزداد شعورا بالنقص, ويري أن هذه المحاولة لسد فراغه بلا جدوي. وربما يحاول أحدهم أن يغطي علي فراغ شخصيته بمدح ذاته أمام الناس لكي يستجدي احترامهم! فيذكر الاعمال( العظيمة) التي قام بها! أو ينسب أعمال غيره الي نفسه! أو يعمل علي تحطيم غيره انتقادا وتشهيرا لكي يبدو هو في قمة المعرفة أو أنه خارج دائرة النقد!! أو يقاوم العاملين بسبب ضيقه من كونهم يعملون وهو لايعمل!! أو يجلس في عظمة, ويغطي فراغه بالغني والاناقة ومظاهر الكبرياء! ومثل هذا الاسلوب قد تلجأ إليها ايضا المرأة التي تغطي علي فراغ شخصيتها بالزينة والتجمل والتحلي بكثرة الذهب والاحجار الكريمة.. والانسان الفارغ الشخصية قد يحاول أن يعيش في الخيال وليس في الواقع. وذلك بأن يرضي نفسه بأحلام اليقظة حتي لايشعر بفراغها! وفي هذه الاحلام يتصور أنه قد صار شيئا ما! ولكن هذه الاحلام لاتنفعه.. وهؤلاء الذين يشعرون بفراغ في الشخصية, ليت المجتمع يحاول أن يوجد لهم مايشغلهم, ويستغل طاقاتهم المعطلة, إن كانت لهم طاقات يمكن الاستفادة بها.. وعلي كل انسان أن يكتشف طاقاته ويستغلها للخير, وأن يجاهد في كل يوم أن يعمل عملا مفيدا, ليس لكي يشعر بالامتلاء, وإنما حب في الخير وفي مساعدة الناس, وحينئذ سوف يشعر بالامتلاء, أو يزول شعوره بالفراغ.. وليت كل إنسان يكون له هدف كبير يسعي إليه, ويبذل كل جهده لتحقيقه. فإن ذلك ينقذه من الشعور بالفراغ. ** الفراغ الروحي إن الروح التي تعيش بعيدة عن الله, إنما تحيا في فراغ مهما كانت ألوان العواطف المقدمة لها. فكلها لاتشبعها.. هناك أشخاص لهم مشغوليات كثيرة تملأ كل وقتهم ولهم مشروعات ضخمة يقومون بها, ومسئوليات خطيرة ملقاة علي عواتقهم. وقد تكون لهم معلومات واسعة جدا ودراسات عميقة ومع كل ذلك تكون أرواحهم في فراغ, سواء شعروا بهذا الفراغ أو لم يشعروا! إنه لاينفع الانسان شيء أن تمتلئ حياته بأمور كثيرة دون أن يمتلئ قلبه بمحبة الله. فما أسهل ان يتحول إلي ماكينة دائمة الدوران, بلا روح. وهكذا بالرغم من العمل الكثير الذي يقوم به, ينظر الله الي هذا الانسان فيجد روحه فارغة, فيقول له: إن لك اسما أنك حي. وأنت ميت!** لذلك يا اخوتي املأوا ارواحكم بمحبة الله ومعرفته فإن ارواحكم تكون في فراغ, إن بعدت عن محبة الله وعن الصلة به. املأوا أرواحكم بالغذاء الروحي الذي يقربكم الي الله. قدموا لأرواحكم ماتحتاج اليه من صلوات وتأملات وتسابيح وتراتيل, وقراءات روحية, وكل مايشبع الروح ولاتكن صلواتكم مجرد ترديد الفاظ أمام الله. وتذكروا قول الرب في بعض الاوقات عن اليهود هذا الشعب يعبدني بشفتيه, أما قلبه فمبتعد عني بعيدا! لاتتركوا أروحاكم فارغة أو معوزة شيئا من الوسائط الروحية. واعلموا أن الروح القوية تنتج شخصية قوية والروح الفارغة تنتج شخصية فارغة. كما انكم اذا امتلأتم يمكنكم أن تفيضوا علي الآخرين. فالحب الذي في أرواحكم من نحو الله ومن نحو البر ومن نحو الناس, يمكنه أن ينتقل اليهم ويقودهم الي السلوك بالروح. كما أن السماء سوف تفرح بارواحكم المملوءة حبا وبرا. عن صحيفة الاهرام المصرية 18/5/2008