من يحكم أمريكا؟ عاطف الغمري يظل مثيرا للاهتمام, المغزي الذي يعنيه اتفاق400 من كبار خبراء السياسة الخارجية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي يتصدرهم هنري كيسنجر, ومادلين أولبرايت, وجورج شولتز, وانتوني ليك وغيرهم, علي صياغة وإعلان استراتيجية لأمريكا بديلة عن استراتيجية بوش, إلي جانب اهتمامي بالمشروع ذاته الذي استغرقت صياغته ثلاث سنوات والمكون من حوالي100 صفحة. والمغزي هنا, يفسر عدم قابلية استراتيجية بوش للبقاء, وتصدع أركانها, باعتراف هذه النخبة التي أعلنت رفضها لها, برغم أنه لم تمض سوي نحو خمس سنوات علي إعلانها من البيت الأبيض عام2002 مع أن المستقر عليه في الولاياتالمتحدة, أن أي استراتيجية للسياسة الخارجية تشيد كمعمار سياسي, يطول عمرها لعشرات السنين. مثلما كان الحال مع استراتيجية الاحتواء التي أدارت الصراع ضد الاتحاد السوفيتي, منذ بدء العمل بها رسميا عام1947 وحتي عام2002. وفي أمريكا- وهو ما يتفق عليه علماء السياسة وصناع السياسة الخارجية ثلاثة شروط لوجود الاستراتيجية وقابليتها للبقاء وهي: 1 - توافق الرأي العام واقتناعه بها. 2- توافق النخبة واحتشادها من ورائها. 3- الوضوح الكلي لأهداف السياسة الخارجية. وهذه الشروط انعدمت في استراتيجية بوش التي جعلت عددا كبيرا من المختصين الأمريكيين يصفونها بأنها خلل استراتيجي, وليست استراتيجية. كانت هذه مقدمة وإن طالت بعض الشئ للدخول الي عمق ظاهرة تخصنا في سياسة أمريكا الخارجية. بداية هناك واقعة تاريخية مسجلة في الوثائق الرسمية الأمريكية, وأعاد كشفها البروفيسور الإسرائيلي المتخصص في المسائل الذرية, أفنر كوهن في كتابه القنبلةTHEBOMB الذي نشره في واشنطن عام1997, في أثناء انتقاله إليها للعمل بجامعة جورج واشنطن, وقد حضرت له ندوة يعرض فيها كتابه في نادي الصحافة القومي في واشنطن. تقول الوثائق: إن أمريكا اكتشفت مفاعل ديمونة في أول الستينيات بعد ثلاث سنوات من بدئه وإن كيندي كان الرئيس الأمريكي الوحيد الذي اتخذ قر ارا بإيقاف مشروع إسرائيل النووي وأصر علي إرسال فريق تفتيش من علماء أمريكيين للتحقق منه وإن ضغوط كيندي قد تكون من أسباب استقالة بن جوريون عام1963. أما باقي رؤساء أمريكا فقد أغمضوا عيونهم عن برنامج إسرائيل النووي. وهو ما أوجد حالة عداء إسرائيلية نحو كيندي حتي آخر أيامه, وذلك رغم ظواهر دبلوماسية لإخفاء حدة الأزمة وتغطيتها تصريحات توصي بخلاف ذلك حرصا علي العلاقة بين البلدين. ذلك كان قد حدث لأنه لم يكن جزءا من استراتيجية أمريكية, لأن موقف إسرائيل الرسمي اتبع ما سمي بسياسة الغموضAmbiguity أي عدم الاعتراف وعدم الانكار بامتلاك سلاح نووي. وانطبع ذلك علي سياسة أمريكا اتبعت نفس نهج الغموض ولو كان ذلك ضمن استراتيجية أمريكا حتي ذلك الحين- ما كان كيندي وهو الرئيس يستطيع الخروج عليها. إن عدم وصول الدولة إلي مرحلة صياغة استراتيجية عالمية, هو الذي يسمح بالانقسامات وتعدد المواقف داخل الجهاز التنفيذي للدولة. نفس الحال عرفته أمريكا قبيل قيام إسرائيل عام1948, فلم تكن قد تشكلت بعد استراتيجيته للعلاقة مع إسرائيل, تتوافر لها الشروط الثلاثة.. صحيح كانت هناك سياسة لحكومات سبقت ذلك, بتأييد هجرة اليهود وقيام الدولة, لكن الاستراتيجية هي الجامعة للدولة, وهي طاقة حشد وتحريك الدولة بكامل أجهزتها وقواها وشعبها بشكل عام في اتجاه الهدف المطلوب مع التسليم بالطبع بوجود آراء مخالفة ومنتقدة لكنها عندئذ لا تمثل الحركة السياسية العامة للدولة, وإلا ما كان الرئيس روزفلت قد ظل رافضا مقابلة وايزمان( أول رئيس لإسرائيل) إلي أن قابله عام1940. ولما كان جورج مارشال وزير الخارجية عام48 قد نصح رئيسه ترومان بعدم الاعتراف بدولة إسرائيل وإن كان ترومان لم يأخذ بنصيحته, وهي واقعة أضيف إليها بعد آخر معاصر عندما اكتشفت عائلة ترومان عام2003, مفكرته الشخصية التي كتب فيها عام1947 محذرا من تصاعد نفوذ اليهود, قائلا بالنص: حين يصل اليهود في البلاد التي يقيمون فيها إلي نفوذ سياسي أو مالي, يصبحون أخطر من هتلر وستالين. وهذه المفكرة موجودة الآن في مكتبة ترومان الخاصة بولاية ميسوري. ذلك كله يعكس الأركان الحقيقية لقوة النفوذ اليهودي في الولاياتالمتحدة, فهم قد فهموا طبيعة النظام السياسي الأمريكي, وأن أمريكا مختلفة عن غيرها في طريقة وشكل صنع القرار السياسي, وإنه لا يكفي أن تحشد القوي اليهودية جهودها لممارسة ضغط أو نفوذ علي الدولة ورئيسها وأجهزتها التنفيذية, بما في ذلك الكونجرس, لأن النفوذ لا يتأتي لها, إلا بالتحرك في اتجاه الأعمدة الثلاثة التي تبني استراتيجية تحرك الدولة بكاملها في اتجاه هدف دعم إسرائيل وهي الرأي العام, والنخبة, فضلا عن الأجهزة الرسمية المختصة بالقرار السياسي علي جميع مستوياتها بدءا من الرئيس والكونجرس. وهذا هو ما تنبهت له مبكرا إسرائيل وأنصارها من القوي اليهودية الأمريكية, وهو ما يعني أن العرب لو أرادوا أن يكون لهم تأثير في أمريكا فهم يحتاجون إلي استراتيجية عمل يتحركون بها داخل الساحة الأمريكية, يسمعون صوتهم مباشرة لأصحاب الشأن- الشركاء في صناعة القرار السياسي. عن صحيفة الاهرام المصرية 14/5/2008