أثناء تولي جون فوستر دالاس وزارة الخارجية في عهد الرئيس ايزنهاور فقد ذهب إلي مجلس العلاقات الخارجية وهو من أكثر المراكز السياسية الأمريكية احتراما يوم4 سبتمبر1955 وألقي خطابا حدد فيه شروط الولاياتالمتحدة للسلام في الشرق الأوسط, وقال: إن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين يمكن ان تحل, وإذا كان بن جوريون يريد ان تساعده أمريكا دبلوماسيا, وسياسيا وعسكريا فيجب علي اسرائيل ان تبرهن علي نواياها للسلام بالمساعدة علي حل المشكلة الحساسة للاجئين الفلسطينيين. وبعدها أعاد أيزنهاور في9 نوفمبر1955 تأكيد موقف دالاس في بيان رسمي. أي انه حدد مبدأ مهما في توجه السياسة الخارجية, تصطدم به اليوم كل العراقيل التي يضعها نيتانياهو أمام السلام, خاصة شروطه عن يهودية الدولة, أو ما يروجون له عن قانون يلزم غير اليهود بالقسم بالولاء للدولة اليهودية. وأيزنهاور هو أول رئيس أمريكي يتخذ موقفا رافضا لضغوط اسرائيل وانصارها, حماية لمصالح الأمن القومي لبلاده. كان موقف ايزنهاور مبنيا علي الالتزام بمبدأ ثابت في السياسة الخارجية للولايات المتحدة, كان قد أرساه جورج واشنطن أول رئيس لأمريكا في خطبة الوداع عام1796 والتي حذر فيها من خطر ما أسماهPassionateattachment أي الارتباط العاطفي, أو بناء المواقف علي أساس عاطفي في العلاقة مع دولة أجنبية, وأوصي الأمريكيين بالبعد عن غواية النفوذ الأجنبية عليهم, أي التحيز المفرط لدولة أجنبية علي حساب أخري. ومن أبرز الذين أثاروا ضرورة العودة الي الالتزام بمبدأ عدم بناء المواقف علي أساس عاطفي, هو جورج بول وكيل وزارة الخارجية في حكومة كيندي وجونسون, في كتابه الخطأ والخيانة عام1994, والذي شرح فيه ما يحدث من خروج علي هذا المبدأ, في ممارسات السياسة الخارجية في العلاقة مع اسرائيل, وقال إن ذلك ليس في مصلحة الولاياتالمتحدة أو اسرائيل علي السواء, وهو الكتاب الذي نظم اللوبي اليهودي حملة ضخمة لمنع الصحف من عرضه وتقييمه, لتقليص تأثيره علي الرأي العام الأمريكي. وجورج بول من أبرز خبراء السياسة الخارجية الأمريكية, وقد رشحه الرئيس كارتر ليكون وزير الخارجية لكن اختياره لم يتم, بسبب المواقف الحادة من القوي اليهودية ضده نتيجة ارائه المعلنة صراحة عن خطأ وخطورة التحيز لاسرائيل من المنظور الاستراتيجي لمصالح الولاياتالمتحدة, وذلك منذ نشر مقاله الشهير عام1977 في مجلة فورين أفيرز بعنوان كيف يمكن إنقاذ اسرائيل رغما عنها. كان بول يتعامل فيما كتبه عن خطبة الوداع لجورج واشنطن, بناء علي مبدأ أساسي في السياسة الخارجية, حاول الكثيرون التغاضي عنه, وعدم الاشارة اليه, استثناء في حالة اسرائيل, كلما حل يوم الاحتفال بعيد ميلاد جورج واشنطن يوم22 فبراير من كل عام, وذلك من منطلق الاستناد إلي قاعدة أساسية في السياسة الأمريكية هي الاحترام والالتزام بالمبادئ التي أرساها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة. وحسب تعريف علماء السياسة في أمريكا, فإن المبدأ في السياسة الخارجية هو نوع من الهندسة السياسية, التي يهتدي بها في تشييد معمار من مبادئ السياسة الخارجية, بناء علي أسس وتوجيهات مستقرة وثابتة, يصاحبها ويعمل في خدمتها عدد محدود من السياسات المتغيرة, المجهزة بمرونة الاستجابة لما قد يستجد أو يتغير في أوضاع العالم, وليس في معماره الهندسي. والمبدأ كذلك هو الأساس لاستمرارية السياسة الخارجية, بما تتضمنه من رؤية ووسائل, تحمي مصالح الأمن القومي علي المدي البعيد. بمعني ان كسر أحد أعمدة المبدأ, لصالح الانحياز العاطفي لدولة أجنبية, هو إضرار بالمصالح الحيوية للبلاد. وهو ما نبه إليه الكثيرون كما أنه يمثل اخلالا بالمنظومة المتكاملة للرؤية الاستراتيجية لسياسة أمريكا علي مستوي العالم. وقد نبهت مؤخرا الدراسات التي كتبها عدد غير قليل من المفاوضين عن الجانب الأمريكي في جلسات المفاوضات الاسرائيلية, منهم ديفيد أرون ميللر الي ان الفشل الذي منيت به سياسات رؤساء أمريكا لحل النزاع الاسرائيلي الفلسطيني سببه التطابق مع مواقف حكومات اسرائيل, وعدم مراجعتها بحسم فيما تتخذه من سياسات تعارض المبادئ المعلنة للسياسة الخارجية الأمريكية, وعلي سبيل المثال هناك التزام رسمي سياسي وأخلاقي من الرئاسة الأمريكية, معلن من الرئيس بوش الأب وكلينتون, برفض الاستيطان, واعتباره غير مشروع وعقبة أمام السلام. .. القضية إذن ليست فقط انحيازا, أو غض أمريكا النظر عن تجاوزات اسرائيلية تصل إلي مرحلة التحدي لها, بل إنه تقاعس أمريكي يمثل خروجا علي مبادئ ثابتة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة, ما كان ينبغي التهاون في الالتزام بها ووضعها موضع التنفيذ.