الحياة: 18/5/2008 فيما كنا نتابع قدوم الرئيس الأميركي جورج بوش إلى إسرائيل خصيصا لمشاركتها احتفاليتها بمرور ستين سنة على قيامها كدولة، لم يبد على كثيرين الشعور بالمفاجأة، ليس فقط لأن زيارة جورج بوش هذه أُعلن عنها مسبقا منذ شهر كانون الثاني (يناير) الماضي، ولكن أيضا لأن «سلة الهدايا» التي حملها معه عبرت فقط عن المزيد من الشيء نفسه. فقبل أشهر قليلة أعلنت هذه الإدارة الأميركية التزامها بصادرات عسكرية إلى إسرائيل تتجاوز قيمتها ثلاثين بليون دولار خلال السنوات العشر المقبلة. الجديد لم يكن ضخامة البرنامج فقط وإنما نوعيته أيضا. فلمدة عشر سنوات قادمة تضمن أميركا لإسرائيل نوعيات وأجيالا جديدة من الأسلحة تتيح لها التفوق على كل الدول العربية مجتمعة. يحدث هذا في الوقت الذي خرجت فيه مصر - أكبر الدول العربية - من المواجهة العسكرية مع إسرائيل منذ سنة 1979، وارتبط الأردن بمعاهدة سلام مع إسرائيل منذ 1994 تتيح ابتعاد أطول الحدود العربية مع إسرائيل عن احتمالات المواجهة. وفوق هذا وذاك أصبح العراق دولة منهارة ومحتلة، وهو الطرف العربي الذي كان يمكن له توفير بديل ذي مصداقية يكفل وجود جبهة شرقية تواجه إسرائيل. كان وجود الرئيس الأميركي جورج بوش في إسرائيل هذه المرة لثلاثة أيام ترجمة لمستوى أعلى من التوحد غير مسبوق. إنه الرئيس الأميركي الحادي عشر منذ قيام إسرائيل كدولة، ومع ذلك فقد بدا الأقل حرصا على ترك مسافة فاصلة بين توجهات أميركا كقوة عظمى عالميا، وبين إسرائيل كحليف ومرتكز إقليمي يتمتع بالحماية الأميركية الكاملة سياسيا وعسكريا من دون أن نتحدث عن الدعم الاقتصادي المستمر. في خضم الحرب العالمية الثانية استوعب الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت محورية بترول الشرق الأوسط لأميركا استراتيجيا واقتصاديا، ليس فقط في مواجهة الخصوم وإنما أيضا في مواجهة الحلفاء. مع خليفته هاري ترومان بدأ التحول الإضافي في الصورة. حتى سنوات ترومان في البيت الأبيض كانت صورة أميركا في العالم العربي وردية ورومانسية تمتزج فيها المودة مع الإعجاب. ومن لم تكن تعجبه التجربة الأميركية أعجبته الأفلام الأميركية والحديث عن «عالم حر» جديد تبشر به أميركا الخارجة من الحرب العالمية الثانية منتصرة وقائدة لمعسكر المنتصرين. ثم بدأت الصدمات الأولى تتتابع صدمة بعد صدمة. فقرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأممالمتحدة سنة 1947 - وهو ما بدا في حينه ظلما فادحا للعرب - خرج بضغط أميركي سافر وصريح، بل وبمتابعة يومية من الرئيس هاري ترومان والبيت الأبيض. كان هذا تعبيرا جزئيا عن أحد التناقضات المبكرة الكامنة في السياسة الأميركية تجاه العالم العربي سنلمسه متكررا لسنوات طويلة بعدها. لقد حاولت كل فروع «المؤسسة» الأميركية الحاكمة وقتها فرملة البيت الأبيض في اندفاعه لدعم المشروع الصهيوني في فلسطين على حساب الحقوق العربية بلا جدوى. أجهزة الاستخبارات وهيئة أركان الحرب المشتركة ووزارة الخارجية بقيادة جورج مارشال كانت كلها تحث الرئيس هاري ترومان على اتباع سياسة أكثر توازنا لأن اندفاعه في فرض المشروع الصهيوني في فلسطين ستكون له عواقب دامية. جورج مارشال مثلا، وهو الجنرال المرموق صاحب الإسهام الجليل في قيادة أميركا عسكريا إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، حمل معه إلى وزارة الخارجية تاريخه وثقله العسكري وأيضا رؤيته الأكثر شمولية لمصالح أميركا في الشرق الأوسط. وفي إحدى النقاط قرر أعضاء الوفد الأميركي في الأممالمتحدة تقديم استقالة جماعية احتجاجا على السياسة المفروضة عليهم من البيت الأبيض ضد مشورة أهل الاختصاص والخبرة في وزارة الخارجية. لكن وزير الخارجية جورج مارشال بعث إليهم في نيويورك بأحد كبار مساعديه من واشنطن ليناشدهم التراجع حتى لا يتسببوا لأميركا بفضيحة دولية. ولم يكن هذا المبعوث سوى دين راسك الذي أصبح هو نفسه وزيرا للخارجية بعد سنوات طويلة. كان جورج مارشال نفسه معترضا على توجهات الرئيس ترومان، لكنه رأى أن وسيلة التعبير عن هذا الاختلاف تكون في مواجهة الرئيس وداخل غرف مغلقة، ففي النهاية الرئيس هو المسؤول بحكم أنه المنتخب شعبيا. وعلى أية حال فبمجرد أن أصر جورج مارشال على عدم الاستمرار في منصبه كوزير للخارجية، بدأت أولى موجات التخلص من خبراء الشؤون العربية والشرق الأوسط في وزارة الخارجية. منذ شهوره الأولى في رئاسة أميركا، بعد الرحيل المفاجئ للرئيس فرانكلين روزفلت، اندمج هاري ترومان بالكامل في المشروع الصهيوني بإقامة الدولة اليهودية في فلسطين على حساب أية اعتبارات من الجغرافيا والتاريخ والحقيقة والأمر الواقع. وخرج ترومان يضغط علنا وبكل الطرق على بريطانيا حليفته المنتدبة على فلسطين لكي تسمح بهجرة مئة ألف يهودي إلى فلسطين فورا. بريطانيا هي من الأساس الطرف الغربي الأول الذي تبنى المشروع الصهيوني، وهي صاحبة وعد بلفور، وهي التي استغلت انتدابها على فلسطين كي تساعد الحركة الصهيونية على خلق وتكثيف الوقائع الجديدة على الأرض وتسهيل هجرة يهود أوروبا الشرقية إلى فلسطين. مع ذلك فقد بدأت بريطانيا نفسها تواجه العواقب الدموية المتصاعدة لسياساتها طوال ثلاثة عقود سابقة، فاتخذت قرارا متأخرا بوضع بعض القيود التنظيمية على الهجرة اليهودية. ومع إلحاح الرئيس الأميركي هاري ترومان على بريطانيا مرة بعد مرة كي تسمح بهجرة مئة ألف يهودي جديد إلى فلسطين اضطر أرنست بيفن وزير الخارجية في الحكومة العمالية البريطانية إلى الوقوف في مجلس العموم في لندن معلنا اعتراضه بقوله: إذا كان الرئيس هاري ترومان متحمسا لليهود إلى هذه الدرجة فلماذا لا يفتح أبواب أميركا ذاتها أمام المئة ألف يهودي الذين يتحدث عنهم؟ كان هذا تناقضا ذاتيا كامنا آخر في السياسة الأميركية عاد إلى الظهور بعدها بثلاثة عقود. فاعتبارا من سنة 1975 بدأت أميركا تضغط على الاتحاد السوفياتي كي يسمح لليهود السوفيات بالهجرة، واستصدرت تشريعا من الكونغرس يربط تطور العلاقات التجارية المشتركة بمدى فتح الأبواب السوفياتية أمام هجرة اليهود السوفيات إلى الخارج. وحين فعل الاتحاد السوفياتي هذا بالضبط، بعد طول ممانعة، كان هذا خلال رئاسة ميخائيل غورباتشوف الذي رفع شعارات «البريسترويكا»، وبادرت أميركا إلى وقف الامتيازات التي كانت تقررها لليهود السوفيات القليلين المنشقين الذين تقبل بهجرتهم إليها تحت عنوان أنهم كانوا مضطهدين سياسيا. والفكرة الأساسية من ذلك التحول كانت أن أميركا لم تعد تشجع هجرة اليهود إليها لترغمهم على الهجرة من وقتها فصاعدا إلى إسرائيل. من هذا الباب فقط حصلت إسرائيل «إجباريا» على مليون يهودي مهاجر في السنوات العشر التالية لتفكك الاتحاد السوفياتي، كلهم متعلمون وغالبيتهم جامعيون ومهنيون وبعضهم علماء رفيعو المستوى. وهكذا بخبطة واحدة أصبحت الإضافة إلى إسرائيل هنا مزدوجة: بشرية وعلمية، وفوق هذا وذاك مجانية. كان دوايت ايزنهاور هو الرئيس الأميركي الثاني الذي تتعامل معه إسرائيل. وهو لم يكن مضطرا إلى التماهي مع إسرائيل مثل ترومان، فقد حملت عنه فرنسا المهمة، وبريطانيا وألمانيا بدرجة أقل. لكن القيد الطارئ الجديد على السياسات الأميركية في المنطقة أصبح وجود الحرب الباردة مع قطب آخر منافس هو الاتحاد السوفياتي. وللغرابة فإن الطرفين معا - الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي - عارضا العدوان الثلاثي ضد مصر في سنة 1956 من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وإن يكن بدوافع مختلفة تماما. وهكذا اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب من سيناء المصرية في آذار (مارس) 1957 لكن كي تعود إلى احتلالها بعد عشر سنوات في ظروف أخرى وبحماية ودعم رئيس أميركي آخر هو ليندون جونسون. كان جونسون هو الرئيس الأميركي الأكثر انحيازا إلى إسرائيل منذ هاري ترومان. وفي ولايته ونتيجة لغزوة إسرائيل الكبرى في حزيران (يونيو) 1967 قطع نصف الدول العربية علاقاته الديبلوماسية مع أميركا وامتد سوء العلاقة إلى النصف الآخر. وحين تولى ريتشارد نيكسون السلطة خلفا لجونسون كان من رأيه أن المصالح الأميركية في العالم العربي تأثرت سلبيا، وبشدة، نتيجة الانحياز السافر إلى إسرائيل. مع ذلك، وعلى رغم التوجه الاميركي لأنور السادات بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1967 كان وزير الخارجية هنري كيسنجر هو الذي صك مقولة: يجب أن يصاب العرب أولا باليأس الكامل قبل أن نبحث معهم في التسوية (مع إسرائيل). بدأ الرئيس الأميركي جيمي كارتر ولايته بنيات طيبة، فهو أول من تحدث في نيسان (ابريل) 1977 عن «وطن قومي» للفلسطينيين. مع ذلك انتهى كارتر بتشجيع السادات على إبرام معاهدته للصلح المنفرد مع إسرائيل. لكن هنا بالضبط نشأت البذرة الأسوأ في القصة كلها، وهي ربط علاقات مصر الأميركية بعلاقة مصر مع إسرائيل. هذا بدوره أصبح نذيرا سيئا لما سيتلو، سواء بالنسبة الى مشاكل مصر في سيناء أو دخولها مع إسرائيل في اتفاقية «الكويز» كشرط مسبق لدخول بعض الصادرات المصرية إلى السوق الأميركية معفاة من الرسوم الجمركية. أما الخلل المروع في القصة فهو أنه بعد أن كان الجانب العربي هو الذي يحدد شروط الاعتراف بإسرائيل، فإن إسرائيل الآن هي التي تنحّي التنازلات العربية المجانية جانبا، كي تحدد هي طلباتها من العرب، حتى أولئك الذين تفصلهم عنها رمال وبحار. وبعد أن كان الرئيس الأميركي جورج بوش يتحدث قبل ست سنوات عن دولة فلسطينية، تدحرج الآن إلى مجرد الحديث عن «تعريف» لتلك الدولة.