الإضراب والحكومة وحركة فتح هاني المصري رغم الاتفاق الذي عقد بين الحكومة ونقابات الموظفين والذي يقضي بتعليق الاضراب وإلغاء الاجراءات العقابية بحق الموظفين، واعتماد الحوار لحل الخلافات على اساس احترام العمل النقابي في فلسطين واحترام القانون، وما يدل عليه ذلك من تداخل العمل النقابي مع السياسة، أكتب هذا المقال دفاعا عن حق الموظفين وكافة قطاعات الشعب باللجوء الى الاضراب بوصفه حقاً اساسياً وشكلاً شرعياً وقانونياً ديمقراطياً، وسلاحاً فعالاً لتحقيق المطالب والمصالح المختلفة الوطنية والديمقراطية بما فيها المطالب النقابية الكفيلة بتحسين شروط حياة الموظفين والعمال والفلاحين وكافة القطاعات التي تعاني الامرين من ضغوط الحياة المتزايدة. في أحد ايام عام 1985، وبينما كنت في موسكو اشارك في دورة في المدرسة الحزبية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، قالت البروفيسورة، التي لم اعد اذكر اسمها، وكانت استاذة كرسي اللينينية، وفي جلسة عامة تعقدها المدرسة مرة كل اسبوع بمشاركة كافة الوفود المشاركة في مختلف بلدان العالم، بان الاضراب ممنوع في الاتحاد السوفياتي لانه دولة اشتراكية تلبي مصالح الطبقات المستغلة وعلى رأسها الطبقة العاملة (البروليتاريا). رفعت يدي وطالبت بالاذن بالحديث، وقلت للبروفيسورة بان رأيها يخالف آراء لينين مؤسس الاتحاد السوفياتي، وأكبر منظري الشيوعية بعد كارل ماركس، فلينين كتب ودافع عن حق الاضراب حتى في الدولة الاشتراكية كون هذا الحق يمكن ان يستخدمه الشغيلة من العمال والفلاحين للدفاع عن مطالبهم ومصالحهم التي يمكن ان تنتهك في الدولة الاشتراكية. فالاضراب اعتبره لينين وسيلة يمكن ان تمنع نشوء ومن ثم تفاقم التشوه البيروقراطي الذي يمكن ان تقع به الدولة الاشتراكية. وعدم التمسك برأي لينين حول حق الاضراب ساهم في تحول التشوه البيروقراطي الذي بدأ مع بدايات تشكل الاتحاد السوفياتي الى طبقة بيروقراطية حاكمة وضعت مصالحها وتحكمها بكل شيء، فوق مصالح الشعب وفوق الأهداف الاشتراكية ما اوجد طبقية اخرى في الاتحاد السوفياتي لا تختلف من حيث الجوهر عن الطبقية التي كانت سائدة في النظام الرأسمالي الذي انشئ الاتحاد السوفياتي من اجل الاطاحة به. ورغم معارضة البروفيسورة لما ادليت به من آراء حول لينين والاضراب في الاتحاد السوفياتي، الا ان حديثي أربك الاستاذة خصوصاً أنه استند الى مقاطع موثقة مما كتبه لينين، وهذا ادى الى انقسام بين اساتذة المدرسة الحزبية حيث أيد بعضهم ما عرضته عن حق الاضراب في الدولة الاشتراكية، بينما عارضه البعض الآخر. تذكرت هذه الحادثة، عندما فكرت بكتابة هذا المقال حول الاضراب والحكومة الفلسطينية وحركة فتح، عندما لاحظت ان الحكومة والكتّاب ، الذين رفضوا الاضراب وحذروا منه الى حد الاقتراب من تجاوز الخطوط الحمر بتحريم الاضراب، لدرجة اعتبار الاضراب حقاً لا يجوز استخدامه الا نادراً، رغم أنه حق كفله الدستور، وشكل شرعي لا بد منه من اشكال دفاع كافة المتضررين عن حقوقهم ومصالحهم، او ما يعتبرونه من حقوقهم ومصالحهم. فالاضراب حق في كل الظروف والاحوال، وفي كافة الحكومات، رغم ان هذا الحق يجب ان يدرس بعناية حتى يحقق عند استخدامه المطالب التي يرفعها بأقل حد من الاضرار. فلا يوجد اضراب في العالم والتاريخ لا ترافقه اضرار هي اشبه بالعوارض التي تلمّ بالمريض عندما يأخذ الدواء الذي يمكن ان يشفيه. فمنذ تشكيل حكومة تسيير الاعمال، حكومة سلام فياض نشأ خلاف بينها وبين نقابة الموظفين حول سداد مستحقات الموظفين المتعلقة برواتبهم التي لم يتقاضوا جزءاً منها جراء المقاطعة المالية التي تعرضت لها حكومتا حماس والوحدة الوطنية، ورغم ان استخدام سلاح الاضراب في عهد حكومة سلام فياض، لم يكن واسعا مثلما كان الامر في فترة حكومة حماس، الا ان الحكومة اتهمت نقابة الموظفين باللجوء الى الاضراب لاسباب سياسية واستجابة لمطالب ومصالح حركة فتح (او اوساط نافذة فيها) في سياق العمل من اجل تغيير الحكومة الحالية او تعديلها بصورة جدية، وبما يسمح بمشاركة حركة فتح في تشكيلتها وفي اقرار برنامجها وفي اتخاذ قراراتها في الشؤون والمجالات المختلفة. لقد رفضت الحكومة الاضراب، وعاندت كثيراً، رغم ان 20% من مستحقات معظم الموظفين لم يتقاضوها حتى الان، ورغم مرور عشرة اشهر على قيام الحكومة بعد الانقلاب الذي نفذته حركة حماس ضد السلطة في غزة، ورغم حديث الحكومة المتفاخر عن تدفق اموال الدعم الدولي. حجة الحكومة انها استطاعت الانتظام في دفع رواتب الموظفين وانها سددت معظم مستحقاتهم، وهذا شيء جيد لا جدال فيه، وحجة نقابة الموظفين ان الحكومة اعطت الاولوية لسداد ديون القطاع الخاص وامور اخرى على حساب سداد بقية مستحقات الموظفين، رغم انها مستحقات تتعلق بقضية حيوية كون رواتب معظم الموظفين لا تسد احتياجاتهم الاساسية، فكيف اذا لم تسدد رواتبهم كاملة؟ وهذه حجة قوية ووجيهة لا يمكن الاستخفاف بها، وما يزيد الطين بلة ان الغلاء وارتفاع الاسعار اطاحا بنسبة لا بأس بها من القدرة الشرائية المتاحة من الرواتب التي يتقاضاها الموظفون. السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لا تقوم الحكومة بواجبها بسداد ما تبقى من رواتب الموظفين المتأخرة، على اعتبار ان هذا الامر يجب ان تكون له الاولوية على أي شيء آخر، على ان يتم البحث والاتفاق على كيفية تلبية مطالب الموظفين الاخرى. ان عناد الحكومة، الذي ظهر عبر الاعلان عن عزمها الخصم من رواتب الموظفين الذين يشاركون في الاضراب، وهذا امر خطير وغير قانوني، وبتصريح رئيس الحكومة بان ما لم يحصل عليه الموظفون بدون اضراب، لن يحصلوا عليه بالاضراب، يصب الزيت على النار ولا يساعد على حل المشكلة الموجودة فعلاً، وغير المفتعلة، رغم أنها تستخدم ايضاً لاسباب سياسية تتعلق بسعي حركة فتح او اوساط نافذة منها لتعديل او تغيير الحكومة. عندما كانت حكومة حماس، أيدت حركة فتح ورئيس الحكومة الحالية ووزراؤها استخدام حق الاضراب بتوسع شديد رغم أنها كانت حكومة محاصرة وتتعرض لمقاطعة مالية اسرائيلية ودولية. اما الان فان الحكومة تذكرت اضرار الاضراب خصوصاً على التعليم، ولجأت الى رفع مشروع مرسوم اقره الرئيس بحق الاضراب، كما يقر بحق المتضرر من الاضراب اللجوء الى القضاء للدعوة لمنعه. وهكذا كان، فقد رفعت الحكومة دعوى على نقابة الموظفين، ودعت المحكمة الى تعليق الاضراب لحين البت في الدعوى، واستجابت النقابة ولجأت الى الاحتجاجات بديلا من الاضراب، وهذا امر جيد فالقضاء حكم نزيه ويمكن ان يقبل بحكمه الجميع. لا يمكن مصادرة حق القضاء في البت في الخلاف بين الحكومة ونقابة الموظفين، ولكن على الحكومة ان تتذكر ما حدث بالنسبة لبراءة الذمة، القرار الخاطئ جداً الذي اصدرته الحكومة وركبت رأسها واستمرت بالعمل به الى ان اصدرت المحكمة العليا قراراً بوقفه لانه لا يجوز اعتبار كل مواطن مداناً الى ان تثبت ادانته، رغم ان القاعدة القانونية الاساسية بان كل مواطن بريء الى ان تثبت ادانته. ولا يبرر قرار براءة الذمة ان الحكومة استطاعت جباية عشرة ملايين دولار من مستحقات المياه والكهرباء المتأخرة لانه ليس المهم فقط تحصيل مستحقات الحكومة وانما الاهم ان يتم ذلك بصورة قانونية وعادلة ومنطقية. واخيراً لا تستطيع الحكومة ان تتجاهل مطالب الموظفين الذين في غالبيتهم ينتمون لحركة فتح، وترفض بعد ذلك استخدام فتح او اوساط منها للاضراب لاسباب سياسية. فالاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، ولا تستطيع أن تبقى الحكومة بالحكم معتمدة على حركة فتح، وترفض في الوقت نفسه مشاركة حركة فتح في الحكومة، وفي إقرار برنامجها واتخاذ قراراتها، المسألة ليست مسألة ابتزاز رغم انها تبدو كذلك في الكيفية التي تعرض فيها حتى من بعض اوساط فتح، المسألة بأن الذي من حقه ان يحكم الذي لديه شرعية وقدرة، والحكومة الحالية لا تملك الشرعية والدعم المحلي بدون حركة فتح. ولا يمكن ان تستمر الحكومة بالاعتماد بشكل اساسي على الدعم الخارجي. والمسألة اخيراً، ليست مسألة تعديل او تغيير حكومي، وإنما ايجاد حكومة لها قاعدة تأييد محلي واسعة تضع على رأس برنامجها تعزيز مقومات الصمود في وجه الاحتلال، وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، لأن الحكومة ولدت من رحم الانقسام، ويجب أن لا تبقى في وضع نجد فيه ان استمرار الانقسام شرط لاستمرار الحكومة. فالاحتلال ليس قضية تفصيلية حتى يتصرف احد وكأنه غير موجود، او قضية من القضايا وليس قضية القضايا. فكل ما يقوم به الشعب الفلسطيني وقواه ومؤسساته المختلفة يجب ان يحاكم على أساس مدى قدرته على انهاء الاحتلال بأسرع وقت وأقل الخسائر! أليس كذلك؟ عن صحيفة الايام الفلسطينية 12/4/2008