اللبنانيون وخطاب الحرب: هتك الرموز وهتك الكيان توفيق شومان أفاض اللبنانيون منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط، ,2005 يهتك رموزهم، حتى بدت السنوات العجاف غير المحددة بأفق ومدى، حلبة لتحطيم عناصر القوة الوطنية والكيانية، وحين يصار إلى النيل من الرموز في مجتمع شديد الحساسية والتعقيد على شاكلة المجتمع اللبناني، لا يبقى من عوامل الجمع ومكونات التلاقي والتقاطع، سوى الهوس المشترك ليقوم مكان ومقام العيش المشترك. في الشرق، حيث الرمز محرك يوميات الناس والمصير، يتحول الاقتراب منه، نيلاً أو طعناً أو تطاولاً، مبعثاً لقلق «الجماعة» على ذاتها وتجييشاً لتوترها، والرمز بهذا المعنى، هو «الحامي» و«الضامن»، والمجسد لطموحات «الجماعة»، ولذلك، يغدو قرين الكرامة التي تدور معه كيفما دار... والرمز في سياق الحديث عنه، لا يُعرف بما يقول، بل بما يُقال عنه، فالجمهور حين يتأطر حول الرمز او يأتلف حوله او يتجمع، او بالأحرى يتجمهر، لا يكون او لا يتكون لديه (الجمهور) حسبان الاستماع اليه (الرمز) بل النظر اليه على الأغلب والتماهي مع شخصه والغرق والاستغراق فيه، وارتكازاً على ذلك، فإن هتك الرمز والنيل منه، هو هتك ونيل لكل فرد من جمهوره، وبما يعني جرح كرامة الفرد، او ما يعرف ب «جرح الأنا» في العلوم النفسية، وكل ذلك يتصل بضرورة الوقوف ملياً وجلياً امام الحضور الكثيف لمفردات وألفاظ «الكرامة» و«العز»، و«العنفوان» و«الشرف» في التداول الشعبي للسياسة باعتبارها صنيعة الرمز حيال الجماعة وانجازاته لها. انطلاقا من ذلك، تغدو عملية هتك الرموز، عدوانا صريحا على الفرد، مما يدفعه الى الاستشراس، وتحويل شراسته الى أفراد الجماعة المقابلة، اعتقاداً منه، بأن كل فرد من (الجماعة المقابلة)، هو الرمز المقابل الذي هاجم رمزه المتحول إلى «أناه العليا»، فيبطش به، يسحقه، يمارس غلواء انتقامه عليه ومنه، وفي خضم ذلك. قد يصعب فعل الترميم بين الأفراد في المراحل اللاحقة. لأن جروحات الأنا، تكون قد حفرت عميقا في توغلاتها النفسية، خاصة أن هذه التوغلات عادة ما تكون مترافقة مع استدعاءات تاريخية واستحضارات الفروق والفوارق بين الجماعات والفئات المتنازعة. لبنانياً، قطعت عملية هتك الرموز شوطاً طويلاً في أفعال الفرز بين الجماعات وتالياً الأفراد، ولذلك غدا تعريف «الجماعات» اللبنانية كالآتي: ÷ نحن الشيعة. ÷ نحن السنة. ÷ نحن المسيحيين. ÷ نحن الدروز. ÷ نحن الأرمن. هذه ال «نحن»، بقدر ما تفترض دلالة جامعة، فإنها بالقياس اللبناني تعبير انقسامي وتقسيمي. وليست خطب الوحدة الوطنية الا أهازيج في عرس من دون العروسين، وال«نحن» تلك، هي تمثلات الرموز في الواقع السياسي اللبناني، حيث يمكن اختصار الواقع المذكور وبصورة مجردة من تطرف القول وغلوه، بمجموعة رموز من الغباء تجاهلها وعدم الاعتراف بها، بل والإقرار بكون هتكها، هتكاً للوحدة الكيانية اللبنانية. وتأسيساً على ذلك، ينبغي القول أولاً، انه في حال أراد اللبنانيون تهدئة لطوفان الأحقاد الذي يكاد يغرقهم، او على الأقل، الحفاظ على منسوب الطوفان ومنعه من جرفهم بعد إغراقهم، العمل على ستر الرموز، حجبهم عن التداول الإعلامي، تحييدهم عن بذاءات الألسنة الطافحة بالعفن السياسي والاتهامي، فالرمز كما سبق القول بات مختصراً للجماعة، بل هو نبضها وعقلها وقدسها وقلعتها الأمامية التي تذود عن مصير الجماعة وحقوقها وأشواقها وآمالها. قد يعترض كثيرون على هذا التوصيف، وقد تنبذه كثرة أخرى، وقد تهزأ منه فئة ويتقيح قلب فئة منه أيضاً، غير ان الواقع لا يشي بغير ما سلف القول، وإذا كانت السياسة على ما درج التعريف بها، بأنها فن الممكن، فإنها أيضاً فن التعاطي مع الواقع، والواقع السياسي اللبناني، يؤكد على التالي: ÷ السيد حسن نصر الله، تراه الأكثرية الاسلامية الشيعية، الساحقة باعتباره حفيد رسول الله (ص)، سليل أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، خليفة الامام موسى الصدر باني الصرح الكياني الشيعي اللبناني، صادق في قوله ووعده وسلوكه وإيمانه ومقاومته، منزّه عن الغرضية والميل والهوى، درع المسلمين الشيعة، حاميهم، رأس كرامتهم، هزم إسرائيل كما لم يفعل السابقون. وكما قد لا يفعل اللاحقون، ولسان حالهم يقول: «فدى... إجر... السيد حسن»، وهذا القول، يختزل مدى القدسية التي باتت ترمز إليها علاقة الجمهور التبعي بالسيد حسن نصر الله. ÷ سعد الحريري، ابن الشهيد كما يراه المسلمون السنة، يرث والده في إعادة التموضع اللبناني الاقتصادي والسياسي على الخارطة الاقليمية والدولية، يتابع مشروع الحريري الأب في خدمة الكيانية اللبنانية من خلال أحجامه المالية وعلاقاته الخارجية، فآل الحريري وفق المنظور الاسلامي السني، هم ورثة رياض الصلح في تصورهم الميثاقي لاستمرارية لبنان، وعلى ذلك ليس من المنطق بشيء، ان يكون الالتفاف الاسلامي السني حول آل الحريري، متأت من الافادة المالية، فحين تكون الاكثرية السنية مع آل الحريري، فالأمر حينئذ يتعلق بمنطق يتجاوز بكثير منطق التبسيط والتسطيح الذي يرى «الحريرية» ظاهرة مالية فقط، فالاجتماع الاكثري السني حول آل الحريري، تختلط فيه مكونات الصحوة المذهبية والتلبنن وتعقيدات المأزق الداخلي الذي يدفع الجماعات اللبنانية الى اللوذ بنفسها واختزال حالها بالشخص. او القائد، او الرمز، او الزعيم. ÷ وليد جنبلاط، من نافل القول، إن الاكثرية الدرزية الساحقة معه، وأكثر الأمثلة الدرزية التبعية الشائعة في هذه الأيام في أوساط الدروز «لو رأسي تدحرج... بيطلع على المختارة»، وهذا الاستخدام لفعل «تدحرج» المفترض فيه نزولاً، يستخدمه الدروز صعوداً وطلوعاً، ويدل ذلك الى عمق الانسياب الجنبلاطي في الواقع الدرزي، وبالتالي صعوبة الفصل بين الواقع المذكور والرمز، حيث الواقع نفسه يطلق مقولة يجب الوقوف عندها بنباهة، إذ يقول الدروز عن جنبلاط «نكبر فيك»، وهو تعبير لا يخلو من اعتراف درزي بالواقع الأقلوي لهم، ومع ذلك، فإنهم يكبرون بوليد جنبلاط، ذاك لسان حالهم... فما العمل؟؟ ÷ ميشال عون، يراه مناصروه رمزاً للعنفوان الماروني، واذا كانت رمزيته غير متحققة في واقع الموارنة، فانه زعيم من دون شك، واذا كانت مساحته الشعبية المارونية، قد عرفت تقلصا ملحوظا في السنتين الاخيرتين، الا انه الأقوى مارونيا، فلا قصفه بالتمحور مع سوريا ألغاه، بالرغم من تقليدية العقل السياسي الماروني المرعوب من المحيط العربي، ولا نعته بالاصطفاف وراء ايران أزاله، بالرغم من ارتجاف العقل الماروني من التذويب بالمحيط الاسلامي، ولا ينم ذلك الا عن ثقة طاردة لأي صنف من أصناف النيل من العماد عون، والثقة التي أولاها الجمهور للأخير، تكشف مرة أخرى، عن ناظم العلاقة في الشرق بين الجماعة والقائد، فحين تتوافر مكونات الثقة وعناصرها في اتجاه عمودي، يتحول النيل من الاتجاه المشار اليه، نيلا جماعيا ومسا مكروها من رأس الهرم حتى أسفل القاعدة، وهذه هي حال «التيار الوطني الحر». قد يقول قائل، ان تحييد الرموز، يعني افقار السياسة وتجويفها، وقد يلاقيه قائل آخر، ان إبعاد الرموز عن التداول الاعلامي المسفّ. يعني اعترافا باختزالية الرموز للجماعات والفئات اللبنانية، الأمر الذي يعني تكريسها وترسيخها، مما لا يغير في حقائق الأشياء ومعطياتها. ان الاجابة على أصحاب القول ذاك، منطلقها الاعتراف بالواقع، وما السياسة سوى فن التعامل مع الواقع كما سلف الكلام، فإذا كان التهجم على الرموز نتاجه رفع منسوب الحقد بين اللبنانيين، وكذلك رفع جدران التباعد والفصل، وإضافة المزيد من عوامل التوتر والاشتعال، فإن سلامة التفكير تقتضي التسليم بالواقع إذا ما أريدت الرحمة بالعباد والبلاد، وأما مجافاة الواقع، وإدارة الظهر له، فخلاصتها استدعاء النار إلى الهشيم، فيتحول الخلاف على تمزيق صورة لرمز وزعيم، الى مقتلة او موقعة صدام كما يحدث بين وقت وآخر في أحياء بيروت او في قرى وبلدات لبنانية عدة، وينقلب أي موقف سياسي تجاه هذا الرمز او ذاك، الى نزال بين جمهورين، لأن مشهد الشتم والقدح والذم، يحتل كامل الصورة الذهنية لدى الطرف المنقود رمزه، (وقس على ذلك) وأهم من كل ما تقدم، ان النيل من الرمز في خضم الاحتقانات والاصطفافات اللبنانية، إمعان في تغذية الكراهية التي تنفجر صواعقها بين لحظة وأخرى. لعل أكثر العناصر خطورة في الواقع السياسي اللبناني الراهن، يكمن في عدم ادراك أهل السياسة، بأن الجمهور حين يتماهى مع رمزه، يصل الى ذروة الحساسية الموازية للتشفي وللحظة الانقضاض على الطرف الآخر، وأكثر عوامل الرفض لدى الجمهور، متمثلة في رفض تشويه رمزه، فالتشويه وفق التوصيف ذاك، أشبه بفعل الإفناء، الذي يمارس على الفرد المتلقي او الجماعة، وهذا ما لا يمكن الرضوخ له لكونه يستفز إرادة البقاء التي تصوّب شررها وحممها النفسية والمادية باتجاه الطرف المقابل، مع كل ما يعني ذلك من حرائق ولهيب، وأغلب الظن أن تحييد اللبنانيين عن الاحتراق، عتبته الأولى تحييد رموزهم عن مرمى الكلام والقول والقدح والهتك... فقد يكون ذلك أول غيث الرحمة... فأين الراحمون؟؟!! عن صحيفة السفير اللبنانية 9/4/2008