أسعار الذهب اليوم السبت 19 يوليو 2025.. عيار 21 يسجل هذه القيمة    نائب وزير المالية للبوابة نيوز: دمج المراجعتين الخامسة والسادسة من البرنامج المصرى مع "النقد الدولي"غير مقلق    روسيا: اعتراض 13 مسيرة أوكرانية أُطلقت نحو موسكو    شروط التقدم لمدرسة نهضة مصر الثانوية للتكنولوجيا التطبيقية 2026    بعد التوقف الدولي.. حسام حسن ينتظر استئناف تصفيات أفريقيا المؤهلة لكأس العالم    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 19 يوليو 2025    أنغام تغني «أشكي لمين» وتوجه رسالة لمحمد منير بمهرجان العلمين    زينة.. عام سينمائي غير مسبوق    سوريا.. اتفاق بين الحكومة ووجهاء السويداء يضمن دخول قوات الأمن العام وحل الفصائل المسلحة    بكام طن الشعير؟.. أسعار الأرز «رفيع وعريض الحبة» اليوم السبت 19 -7-2025 ب أسواق الشرقية    «مرض عمه يشعل معسكر الزمالك».. أحمد فتوح يظهر «متخفيًا» في حفل راغب علامة رفقة إمام عاشور (فيديو)    زوج البلوجر هدير عبد الرازق: «ضربتها علشان بتشرب مخدرات»    إصابة 4 أشخاص في تصادم سيارتين بطريق نوي شبين القناطر بالقليوبية    حضور الخطيب وظهور الصفقات الجديدة.. 15 صورة لأبرز لقطات مران الأهلي الأول تونس    هدنة 72 ساعة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس وموعد انخفاض درجات الحرارة    أول ظهور ل رزان مغربي بعد حادث سقوط السقف عليها.. ورسالة مؤثرة من مدير أعمالها    35 عرضًًا تتنافس في الدورة ال 18 للمهرجان القومي    الحرف التراثية ودورها في الحفاظ على الهوية المصرية ضمن فعاليات ثقافية بسوهاج    استعلم عن نتيجة تنسيق رياض الأطفال ب الجيزة 2025.. الرابط الرسمي والمستندات المطلوبة    ترامب يتوقع إنهاء حرب غزة ويعلن تدمير القدرات النووية الإيرانية    «شعب لا يُشترى ولا يُزيّف».. معلق فلسطيني يدعم موقف الأهلي ضد وسام أبوعلي    تنسيق الثانوية العامة 2025 الجيزة للناجحين في الشهادة الإعدادية (رابط التقديم)    مستقبل وطن بسوهاج يطلق خطة دعم مرشحيه لمجلس الشيوخ ب9 مؤتمرات    كل ما تريد معرفته عن مهرجان «كلاسيك أوبن إير» ببرلين    مصدر أمني يكشف حقيقة سرقة الأسوار الحديدية من أعلى «الدائري» بالجيزة    رئيس حكومة لبنان: نعمل على حماية بلدنا من الانجرار لأي مغامرة جديدة    عميد طب جامعة أسيوط: لم نتوصل لتشخيص الحالة المرضية لوالد «أطفال دلجا»    مطران نقادة يلقي عظة روحية في العيد الثالث للابس الروح (فيدىو)    كيف تضمن معاشا إضافيا بعد سن التقاعد    بشكل مفاجئ، الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يحذف البيان الخاص بوسام أبو علي    "صديق رونالدو".. النصر يعلن تعيين خوسيه سيميدو رئيسا تنفيذيا لشركة الكرة    ستوري نجوم كرة القدم.. ناصر منسي يتذكر هدفه الحاسم بالأهلي.. وظهور صفقة الزمالك الجديدة    تحت شعار كامل العدد، التهامي وفتحي سلامة يفتتحان المهرجان الصيفي بالأوبرا (صور)    من المستشفى إلى المسرح، حسام حبيب يتحدى الإصابة ويغني بالعكاز في موسم جدة 2025 (فيديو)    تطورات جديدة في واقعة "بائع العسلية" بالمحلة، حجز والد الطفل لهذا السبب    الكرملين: تسوية الأزمة الأوكرانية وتطبيع العلاقات بين موسكو وواشنطن موضوعان مختلفان    داعية إسلامي يهاجم أحمد كريمة بسبب «الرقية الشرعية» (فيديو)    مصرع طفلة غرقًا في مصرف زراعي بقرية بني صالح في الفيوم    انتشال جثة شاب غرق في مياه الرياح التوفيقي بطوخ    انتهت.. عبده يحيى مهاجم غزل المحلة ينتقل لصفوف سموخة على سبيل الإعاراة    «زي النهارده».. وفاة اللواء عمر سليمان 19 يوليو 2012    5 أبراج على موعد مع فرص مهنية مميزة: مجتهدون يجذبون اهتمام مدرائهم وأفكارهم غير تقليدية    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية ببداية الأسبوع السبت 19 يوليو 2025    أحمد كريمة عن العلاج ب الحجامة: «كذب ودجل» (فيديو)    سعر المانجو والموز والفاكهة ب الأسواق اليوم السبت 19 يوليو 2025    تعاني من الأرق؟ هذه التمارين قد تكون مفتاح نومك الهادئ    أبرزها الزنجبيل.. 5 طرق طبيعية لعلاج الصداع النصفي    خبير اقتصادي: رسوم ترامب تهدد سلاسل الإمداد العالمية وتفاقم أزمة الديون    ب37.6 ألف ميجاوات.. الشبكة الموحدة للكهرباء تحقق أقصى ارتفاع في الأحمال هذ العام    كسر بماسورة مياه الشرب في شبرا الخيمة.. والمحافظة: عودة ضخ بشكل طبيعي    ما حكم رفع اليدين بالدعاء أثناء خطبة الجمعة؟.. الإفتاء توضح    "القومي للمرأة" يستقبل وفدًا من اتحاد "بشبابها" التابع لوزارة الشباب والرياضة    الحوثيون يعلنون استهداف مطار بن جوريون بصاروخ باليستي فرط صوتي    وزير الخارجية اللبنانى لنظيره الأيرلندى: نطلب دعم بلدكم لتجديد "اليونيفيل"    5 طرق فعالة للتغلب على الكسل واستعادة نشاطك اليومي    أصيب بنفس الأعراض.. نقل والد الأشقاء الخمسة المتوفين بالمنيا إلى المستشفى    عبد السند يمامة عن استشهاده بآية قرآنية: قصدت من «وفدا» الدعاء.. وهذا سبب هجوم الإخوان ضدي    هل مساعدة الزوجة لزوجها ماليا تعتبر صدقة؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية: قراءة في الظاهرة وردات الفعل / سمير سليمان
نشر في محيط يوم 18 - 03 - 2008

الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية: قراءة في الظاهرة وردات الفعل
سمير سليمان
منذ نشرت صحيفة (JYLLANDS POSTEN) الدنماركية، وهي صحيفة يمينية متطرفة، في 30 أيلول ,2005 اثني عشر رسماً كاريكاتورياً للنبي محمد (ص)، اعتبرها المسلمون في العالم، عن حق، مهينة لمقدساتهم، فأثارت بين ظهرانيهم، مشرقاً ومغرباً، عاصفة من الاحتجاجات والسجالات، وكذلك فعلت في شتى بقاع الغرب نفسه...
منذ ذلك الحين والقضية لما تنتهِ فصولاً. وإذا كان أكثر المسلمين في أربع جهات الأرض قد جعلوها خلف أظهرهم (أو نسوها؟!)، فإن كثيراً من نخب الغرب على تعدديته لماَّ تنسها، بل هي تستحضرها في كل مناسبة للعلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي شأن واعتبار، أو إثارة.
كشفت تلك الرسوم الكاريكاتورية، وقبلها عاصفة سلمان رشدي في الآيات الشيطانية، عن مدى الاهتراء والتردي العلائقيين بين ذينك العالمين، وما كانت مجدية في معالجتها أو تداركها كل مسكنات الحوار الإسلامي المسيحي التي جرى تجرعها على مدى عقود من التجارب المرجعية والمؤسسية أو الأكاديمية.
وما صدر عن الفاتيكان إبان أزمة الرسوم عام 2005 من مواقف تراجعية عن «جدوى» هاتيك التجارب ومزاعم إنجازاتها، ومن تهديدات بالإقلاع عنها، يشكل مضبطة اتهام ناجزة لما آلت إليه. وما كاد البابا الحالي بنديكتوس السادس عشر يتسنم كرسي البابوية، حتى ألقى بعيد ذلك، وتحديداً في 12 أيلول/سبتمبر ,2006 محاضرة في جامعة «ريغينسبورغ» الألمانية اعتبر مسلمو العالم أجزاء منها مهينة لدينهم ومشاعرهم.
ما استتبع سجالات عالمية صاخبة استعادت الاستدلالات والحجج ذاتها تقريباً التي كانت قد استنزلت إلى «معركة الأفكار» التي اندلعت حول الرسوم الكاريكاتورية الدنمركية، مستثيرة بذلك التأصيلات المنهجية والفلسفية والثقافية نفسها التي كانت قد نفخت في روحها تلك الرسوم، فتمثلت خطاباً قلما جاء من طرفي السجال الإسلامي والغربي سوياً، أو عقلانياً، أو منبئاً بولادة تعارفية وعلائقية صحيحة وصحية، أو مبشراً باستعباد مقنع من التجارب العلائقية السابقة والمريرة بين العالمين الإسلامي والغربي، بل بقية العالم.
وفي ليال غير ظلماء، وبمقدمات مكشوفة وحجج مكررة، استنبشت أرشيفات الرسوم الدنمركية من جديد هذه الأيام، لتتطوع صحف ومجلات غربية بإعادة نشر كاريكاتورات (JYLLANDS ? POSTEN)، إحياءً لذكراها البائسة واسترجاعاً لخطاب حقوق الإنسان في «العالم الحر»، وفي رأسها: حرية الرأي والتعبير؛ ولكن، هذه المرة، من غير ردود فعل غاضبة أو شاجبة من مسلمي العالم، إلا ما ظهر من نوادرها الخجل في بعض وسائل الإعلام وعلى الأرض، بما لا يقاس بأحداث وحوادث ردات الفعل سنة .2005 ولا تخلو الظاهرة من مفارقة لافتة: غضب إسلامي أممي شعبي بعيد نشر الرسوم الكاريكاتورية عام 2005 تخللته مآسٍ وصدامات دموية، ومن ثم ردات فعل إسلامية محدودة ونخبوية وسلمية في بعض أرجاء العالم الإسلامي ومن قبل بعض مسلمي الغرب، وذلك بعدما أعيد نشر الصور في أقطار أوروبية مختلفة مؤخراً وفي نطاقات أوسع من تلك التي كانت شملتها من قبل. فما عدا مما بدا؟!
فالسبب والمسبب واحد، كما القضية.. بينما ردات الفعل الإسلامية تبدلت وتحولت. كأنما هذه الردات انضمت إلى مثيلاتها من تجارب سابقة للرأي العام الإسلامي /الشارع الإسلامي الذي اختبرت المؤسسة السياسية الغربية ردات فعله مراراً وعرفت كيف تحتويها حيال قضايا كبرى، فوجدته قصير النفس غالباً، سريع التبلد (من البلادة)، مترعاً بقابليات الاحتواء والتدجين، يؤوساً متقلباً.
وما تجاريب ردات الفعل تلك من احتلال أفغانستان والعراق، والحروب الإسرائيلية في فلسطين ولبنان، سوى بعض المصاديق على صحة هذا الابتلاء المزمن.
لهذا المتحول أسبابه بطبيعة الحال، وهو يحتاج إلى قراءة مستقلة لفهم أسبابه ودوافعه، وهي ليست في مقاصد هذه الدراسة التي تنكب على تقديم قراءة معمقة للظاهرة ولردات فعل العالمين الإسلامي والعربي والغربي إثر نشر تلك الرسوم للمرة الأولى، وها هي هزاتها الارتدادية تستنسخ بعض سماتها هذه الأيام، وإنْ بأشكال ومستويات متغايرة ومتفاوتة ومثيرة.
في هذه القراءة تتظهر مشهدية العلاقات بين ذينك العالمين بحقائقها السياسية والحضارية والإيديولوجية والتاريخية على نحو ينبئ بمدى اشتداد الاحتقان المزمن بينهما وتفاقم مثيرات التنازع والقلق المتبادل والتوجس من الآخر والارتياب بنواياه.
الضجة الكبرى التي أنتجتها ردات الفعل العالمية على الرسوم الدنمركية، عدا كونها حافلة بالعبر، هي من جهة أخرى، أصدق الإِنباء على الانشطار الحاد التوتر للعالم، وقد ذُهِب به كل مذهب.
في جيبوليتيك ذلك الاحتقان «الهستيري» المتبادل والمتعدد الأسباب بين المسلمين والعالم الغربي لا تعود قراءة ظاهرة الرسوم الكاريكاتورية الدنمركية ممكنة وفاق فرضية الصدفة أو المفاجأة العابرة، إذا أخذت من زاوية مبدأ الحدوث.
أما انتفاء إمكان هذه القراءة فعائد إلى سببين: الأول مرتبط بسياق الاحتقان الغربي العام تجاه الإسلام والمسلمين ودلالاته ورموزه ووسائط تعبيره عن مكنوناته، بينما يرتبط السبب الثاني بسياق الاحتقان التاريخي في أوساط المسلمين وتعبيراته المختلفة ودلالاتها في النزال التاريخي مع ما يسمى ب«الغرب». فواقع الأمر أن السياقين يسيران جدلياً في اتجاهين متعاكسين.
بمعنى آخر، إن سببية الاحتقان المختلفة لا بد من أن تفضي مبدئياً إلى نتائج مختلفة في الجهتين تعبر عن نفسها بمقتضى مسارات الإفصاح والتعبير المألوفة والمعتمدة في بيئتها وبأدواتها الثقافية المتاحة ووسائل الإعلام والتبليغ المتوافرة لديها.
كان «الغرب» منسجماً مع نفسه عندما لم تظهر عليه أعراض الاعتراض والاحتجاج على الرسوم الكاريكاتورية في البداية، وهي كانت عبَرَتْ في فضائه أول الأمر كما كانت قد عبرت نظيراتها الكثيرة سابقاً بأقل اهتمام أو انتباه ممكنين، لو لم تقم الدنيا الأخرى عليه وتعصف في هدوء صفحته.
وكان صادقاً ومنسجماً مع نفسه عندما «فاجأته» ردات فعل المسلمين في العالم الإسلامي بما يشبه الانتفاضة الشعبية العارمة، فانبرى، إذْ بُهت وأصابته الدهشة، إلى محاولة فهم ما يحدث وهذه حال هذا «الغرب» في ظروف مماثلة وهو ما كان قد تعود على انتفاضات إسلامية شاملة من هذا النوع وبهذا الحجم والإصرار (المؤقتين؟!).
ففي حوادث مشابهة كان دأبها المرور مر السحاب، أما هذه المرة فانفتحت على مصراعيها وعلى أرضه آفاق نقاش وسجال عامين لمَّا تنتهِ فصولها بعد، وقد انقسمت فيها وجهات النظر وتعددت وتفاعلت.
وفي هذه أيضاً كان «الغرب» هو الغرب الطبيعي والمألوف والمنسجم مع منظومة قيمه، مع فارق هام قوامه أن ردات الفعل الصادرة عن مسلمي العالم على الرسوم قد أخرجتها، كواقعة، من سياقها التقليدي الغربي الهادئ لتجعلها في صدر الاهتمامات الغربية وفي واجهة العلاقات الدولية والسجال المحتدم حول العلاقات بين الثقافات والحضارات، والعلاقات بين الأمم والشعوب، وأهمها في هذه المرحلة التاريخية النقاش المفتوح حول علاقات العالم الإسلامي بالعالم الغربي.
لقد كان لافتاً مستوى «العقلانية» والحكمة والتوازن في مواقف وخطاب الأقليات المسلمة الغربية التي مارست فعل الاحتجاج على الرسوم الكاريكاتورية من قلب مقتضيات «الاندماج» وشروطه (Intégration)، وهو الذي لطالما اعتبر أزمة الأزمات في علاقة تلك الأقليات بالمجتمعات التي تشترك وإياها في معيش واحد وتواطن موحد.
كانت غالبية المسلمين الغربيين في الاختبار العلائقي الذي خاضته، تنحو إلى الوسطية التي لم تشغلها إدانة ارتكاب فعلة الرسوم عن استنكار ما اعتبره الداعية الإسلامي الأوروبي الشهير طارق رمضان «هوس بعض الجماعات المسلمة بطلب الاعتذار أو الانزلاق إلى منحدر التهديد بالسلاح والإيذاء الجسدي للأجانب» .
(1) فردات الفعل المتعارضة الصادرة عن الطرفين المسلم والغربي لا تشكل في رأيه صراعاً بين الإسلام والغرب بالمعنى الإطلاقي لكل من المصطلحين، بل هي تعبير عن صراع بين الانفعالات والتعقل. فلا يجوز، بذريعة الحق في حرية الرأي والتعبير، توسل هذا الحق المشروع لأجل قول كل ما نريد، ضد كل من نريد، وبأية طريقة كانت.
(2)وبقطع النظر عن صحة بعض تفاصيل رأي طارق رمضان، فإن الموقف العام لمسلمي «الغرب» جاء منسجماً مع طبيعة تجاربهم وأنساقها الخاصة المستلَّة من معايشتهم الواقعية للحقائق العلائقية المتجسدة بينهم وبين مواطنيهم المنتمين إلى إيديولوجيات أو أديان أو مشارب أخرى، وليس من مجردات نظرية أو إيديولوجية.
على صفحة الغرب والعالم انتشرت ظاهرة الرسوم الكاريكاتورية وردات الفعل عليها كبقعة الزيت، أو ككرة الثلج. في كل مكان شكلت هذه القضية دينامية جديدة بقوة دفع ذاتي ولو بمستويات مختلفة.
أما في قلب العالم الإسلامي والعربي فالاحتقان المزمن والمرفوع إلى أعلى وتائره أولى له، في القراءة العقلانية، أن لا يكون مفاجئاً لأي متابع إذا قيس بالمعايير الطبيعية لسيكولوجيا الحراك الجماهيري وتطور تفاعلاته، كما لطبائع البشر وسنن اجتماعهم أو تفرقهم.
لقد كانت موارد الانتفاض والتمرد في العالم الإسلامي والعربي متوافرة إلى حد بعيد، فمنذ عقود وهي لا تنفك عن التراكم والتفاعل والتضخم. حتى ان عدم حصول الانفجار كان يبدو مستهجناً ومستغرباً أكثر بكثير من حصوله، كما كنا قد نوَّهنا.
مع كل ذلك جاء حدوث «الانتفاضة» الإسلامية مفاجئاً لغير المسلمين وللمسلمين أنفسهم والعرب أيضاً. وبمعنى أدق كان لنخَب المسلمين بمثابة غير المفكر فيه. وسبب المفاجأة واحد: سُنة تعودناها وعُرف أرسيناه وألفناه قوامهما غياب المسلمين، أو بمعنى أدق: غياب الشارع المسلم عن الحضور المؤثر في تقرير وتوجيه مصير قضاياه الكبرى، وأكثر قضاياه كبرى، وفي مجرى التحولات الآيلة إلى تهديد وجوده قبل مصالحهِ، وإلى إهدار حقوقه المشروعة.
استراتيجيو وخبراء الغرب بشؤون العالم الإسلامي، أو بعضهم بالأقل، مطمئنون إلى أن ذاك الشارع، إن تحرك، فحركته قصيرة النفس والتنفس، وبالتالي فهي لا تخيف أحداً ولا تحول ولا تُحيل.
لقد رصدوها واختبروها (أليسوا هم الخبراء؟)، فتبين لهم أنها كنارٍ في كومة قش، سرعان ما يخبو أوارها. يقول: Robert Mallay، وهو مستشار للرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون، عما يسميه: «الشارع العربي»، ولفظة الشارع في الغرب تتضمن بالمعيارين السياسي والأخلاقي معنى غير لائق ...
يقول الرجل تعليقاً على ردات فعل هذا الشارع إثر بدء العمليات العسكرية الأميركية في أفغانستان: »لقد أحصى الصحافيون الأميركيون وهذه صفة مموهة لمن هم غير صحافيين أيضاً مستعينين بآلاتهم الحاسبة، عدد التظاهرات التي شهدها العالم الإسلامي والعربي أسبوعياً احتجاجاً على تلك العمليات، فإذا هي:
تسع تظاهرات خلال الأسبوع الأول، ثم ثلاث تظاهرات في الأسبوع الثاني، ثم واحدة، ثم اثنتان، ثم لا شيء، فواحدة أخيرة لا غير حدثت في الأسبوع السادس» (3). ويعلق «روبرت ماللي» على هذه الظاهرة بقوله: «الظاهر أن صمت الشارع الإسلامي قد أدى، على مستوى الولايات المتحدة الأميركية بالأقل، إلى بروز استنتاجات يصعب دحضها.
وأولها أن الرأي العام الإسلامي لا يحترم شيئاً بقدر ما يحترم السلطة والقوة» (4). ثم يستنتج المستشار السابق لكلينتون: «إن لما سبق نتيجة طبيعية: صارت أميركا مطلقة اليد في ما تفعله في أفغانستان طبعاً، ولكن أيضاً في العراق أو في أهداف أَيْسر، أي في البلدان التي تسمى في واشنطن: الثمار التي في متناول اليد»(5).
إن هذه الشهادة، وبعض ما فيها مهين، تنبئ بأن الشارع العربي/ المسلم كان يثير التوجس والقلق، لكن التجربة الميدانية أثبتت أن ليس فيه ما يُخشى منه من وجهة نظر التحليل تلك. فلتطلق حرية التظاهر والاحتجاج بضعة أسابيع، فبعدها ستطلق الحرية المنتظرة المضادة لتستأنف تنفيذ ما عزمت عليه ما دام ذلك «الشارع» مفتوحاً وخالياً. لكن حسبة الحقل لم تأتِ مطابقة لحسبة البيدر لجهة انتباه الشارع المسلم وانفجار ردة فعله هذه المرة... وأما المحصلات والجدوى الختامية ففيها كلام آخر آتٍ.
المفارقة إذاً، وهنا أيضاً، هي في أنه جرى إِخراج واقعة الرسوم الدنمركية من سياق الحراك الإسلامي التقليدي المخدر أو المسفوح بالإحباطات والهزائم واليأس، لتصيب الدهشة الجميع ولتنقلب الصورة رأساً على عقب، من الانطفاء إلى الاتقاد، ومن السلب إلى الإيجاب.
لقد خرج الاجتماع الإسلامي والعربي فجأة من غرفة العناية الفائقة، وقد سجن فيها حقباً، إلى دبيب العافية برغم ما شاب هذا الخروج الصحي في أصله من نتوءات وخروقات عنفية لم يكن ما تسببت به من إساءة أقل أذى وإضراراً من وقع الرسوم الكاريكاتورية الحمقاء نفسها، وهي شوائب غير مستغربة في مناخ فلتان الغرائز المقموعة واندلاع السخط المضغوط، وقد نزعت عن قنابله الموقوتة والمتنوعة الأشكال والأنواع جميع صمامات الأمان والرشد في بعض مناطق المسلمين، ولأسباب مختلفة.
بموجبات النسق الحضاري الغربي وأدوات القراءة فيه، كانت ظاهرة الرسوم إذاً حادثة عادية انسيابية في سياق روتيني وأنماط معالجة مقولبة ومرجعيات معرفية وإعلامية وسياسية جاهزة. أما بلوازم النسق الحضاري الإسلامي فقد تحولت الرسوم إلى حدث انقلابي وإلى تطور هام لعله حمَّال ديناميات أخرى في المستقبل.
لقد أمست مطابقة الصورة/التصور للواقع والحقيقة مطروحة للسجال والتفكر من جديد لحسن الحظ.
في الانسيابية الغربية، حتى في قلب الشعور »بالصدمة« من الهيجان الإسلامي للغرب أيضاً قابلية لافتة لتلقي الصدمات، وبُناه تتقن كيفيات احتوائها والتعامل بها .. في هذه الانسيابية وبقوانينها أعيد طرح قضية الكاريكاتورات الدنمركية على بساط البحث بمستوى الاهتمام الذي حددته ردات الفعل الإسلامية وتحت سقفها تقريباً.
اضطربت مواقف المحللين الغربيين في البداية، ثم اصطفت في أربعة تفسيرات عامة للظاهرة وللردات المتفجرة في وجهها:
التفسير الأول حضاري جاء من تصور نمطي اعتبر مسألة الرسوم وجهاً من وجوه صدام الحضارات(6) الأطروحة التاريخية المعروفة لصامويل هانتنغتون.
التفسير الثاني سوسيولوجي بنحوٍ عام يعتبر أن الظاهرة هي الابن الشرعي للسجال الدائر في «الغرب» حول معضلة العلاقة، التي لمَّا تحلَّ بعد في المجتمعات والدول العلمانية، بين الحريات العامة والخاصة وبين المقدس، أي بين القوانين الوضعية والحلال والحرام الإلهيين(7).
وانصرف التفسير الثالث إلى الجانب القيمي وَكَيْلِ الغرب بمكيالين، فما لغير المسلمين حق مفروض ومصان بالإيديولوجي والثقافي والسياسي والقانوني، من جهة العدل جاء أم من جهة التسلط. وأما ما هو للمسلمين حتى ولو كانوا غربيين فلا يحظى بهذه الامتيازات، لا جزئياً ولا نسبياً، وقد حُرِّمت عليه كلياً.
بمعنى آخر إن القيم التي ينادي بها «الغرب»، وهي التي يفترض فيها أن تحاكي الإنسان بمعناه الكلي سواء كان يعيش داخله أو خارجه، نراه يخالفها في قلب مجتمعاته، ويخالفها خارجها، بل يمارس نقيضها(8).
أما التفسير الرابع فهو سياسي اعتبر ردات الفعل الإسلامية الطالعة من قلب العالم الإسلامي والعربي مجرد تصفية حسابات لبعض الأنظمة الإسلامية والعربية في الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة على خلفية مواقفها المتماهية مع المصالح الإسرائيلية، ثم مع أوروبا من جديد بعد عودتها إلى الالتحاق بتحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية، وذلك على أثر تباعد مؤقت حدث بين الطرفين آنذاك على هامش التحضر للهجوم الأميركي على العراق.
أما ردات الفعل الإسلامية المصعَّدة في «الغرب» نفسه من قبل الأقليات الإسلامية، فقد صنفها القائلون بهذا التفسير أنها إنما جاءت بناءً على «أوامر» صدرت من الدول والمنظمات الإسلامية والعربية التي ما انقطعت قط عن اعتبار مواطنيها «الغربيين» أدوات تحركهم لأسباب شرق أوسطية(9).
هذه التفسيرات للظاهرة ولردات فعل المسلمين عليها، على أهميتها الأكاديمية وتنوعها الإيديولوجي والثقافي، برغم بعض المهرجانية التي أحيطت بها، وبرغم جرعات الجهل المركب التي امتلأ معظمها بها، ظلت أسيرة النخب وبعض المواقع البحثية ومراكز الدراسات.
لَيْتَهُ كان لهذه المقالة مجالٌ للخوض في مناقشة هذه التفسيرات /التأويلات الغربية لظاهرة الرسوم وردات الفعل الإسلامية عليها. لكنَّ بعض الملاحظات الأولية نجدها ضرورية ولو من باب «ربط النزاع» مع هذه التفسيرات كما يقول الحقوقيون.
عن صحيفة السفير اللبنانية
18/3/2008


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.