نساء غزة في زمن الصمت د. عيدة المطلق قناة منذ عام أعلنت “إسرائيل" على غزة حرباً ضروساً بمختلف الأشكال، شملت القصف بالطائرات والصواريخ (جواً وبراً وبحراً) وشملت اجتياحات واغتيالات متكررة، تنفذها سلطة احتلال سادية عز نظيرها في التاريخ.. حرب ساخنة بل ملتهبة تتقاطع مع حرب أخرى باردة تبدو أشد فتكاً وأشد انتهاكاً لشرائع السماء والأرض والمجتمع الدولي، حرب قوامها حصار وحشي، وإغلاق للمعابر، وقطع للوقود والكهرباء والمواد التموينية، فتعطلت المرافق العامة والخاصة من مستشفيات وعيادات وآبار مياه وأفران ومصانع ومنازل ومتاجر. هناك تدهور خطير في كمية المياه الصالحة للشرب وفي نوعيتها تسبب فيه النقص في التزويد حيناً والتلوث الذي أصاب بعض مصادر هذه المياه حيناً آخر. هناك تدهور خطير في الخدمات الطبية.. حيث تعاني من نقص حاد في الأطقم الطبية وأطقم الإسعاف وغرف العمليات ونقص في المستلزمات اللازمة والتي أصبح نقصها يشكل خطراً على حياة المرضى والمصابين من محاليل وقطن وشاش ومطهرات وحقن وغيرها. لقد توقفت محطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع، وتعطلت معها كافة خدمات شركة الاتصالات الفلسطينية السلكية والخلوية والإنترنت. إذن نحن أمام حرب وحشية شاملة لا تبقي ولا تذر، حرب تسببت بفصولها وتطوراتها في تدمير اقتصاد غزة الهش، فحل الخراب بهذا الاقتصاد فلم يعد من الممكن علاجه. لقد انهار القطاع الصناعي، وتوقفت آلاف المصانع، إذ لا وجود للمواد الخام اللازمة لتشغيلها، وفقد مائة ألف فلسطيني وظائفهم في الشهور الستة الأخيرة، فضلاً عن آلاف آخرين لا يجدون عملاً. ولكن المأساة لا تقتصر على انعدام فرص العمل فحسب، بل حتى الذين يعملون لا يقبضون رواتبهم بسبب الحصار المالي، وبات معظم مواطني غزة يعيشون تحت خط الفقر. وتتصاعد الأزمة وتزداد المأساة الإنسانية فتكاً. إن غزة اليوم أخذت تموت جوعاً ومرضاً ودماراً بيئياً، وتركت مليوناً ونصف المليون إنسان بلا طعام ولا ماء ولا خبز ولا دواء. كارثة إنسانية يسكن الموت كافة تفاصيلها وحيثياتها، إذ تسببت بموت المئات من المدنيين، فضلاً عن أن هناك المئات من المرضى في المستشفيات منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. كارثة أخطر ما فيها أن هناك المئات من الأطفال الذين يحتاجون إلى رعاية طبية فائقة خاصة في المستشفيات -دون غيرها- أو إلى أجهزة مختلفة تربطهم بخيط الحياة كأجهزة التنفس(على سبيل المثال) فبات الموت البطيء (اختناقًاً وجفافاً وتلوثاً.. إلخ) يحصدهم الواحد تلو الآخر. وتتداعى التفاصيل والتجليات المأساوية.. ولكن ماذا كان الرد؟ حين أغرقوا غزة بالدماء والظلام والجوع والعطش وضنك العيش والمهانة؛ وكاد صوتها أن يغيب ويتلاشى في الفضاء الأصم، وحين أبت نساء غزة أن يقبعن في ملجأ المهانة بانتظار الموت الذليل، تفجر الغضب الأنثوي بركانياً كاسحاً، تدفقت مئات الماجدات نحو ذاك الجدار الحدودي اللئيم، فحطمنه بأجسادهن ودموعهن قبل أن يتم تدميره. كسرت النساء حاجز الصمت، وانطلقت الصرخة مجلجلة مدوية، واخترق الفعل الغزاوي كل الممنوعات والتابشوهات، فاهتزت أركان الظلم، وتلاشت شروط الذل والمهانة، وجاء الفرج في أعطاف تلك السواعد القوية التي هزت سرر المجاهدين والشهداء والاستشهاديين بيمناها لتهز العالم اليوم بيسراها. أما على الجانب الآخر من معادلة الحدود الظالمة كانت الجماهير المصرية العظيمة تعلن احتضان غزة وطناً وأهلاً وقضية، وتعلن التمرد على شروط التجزئة، في مشهد لعله يشير إلى أن الإنجاز الغزاوي قد أيقظ ذاك المارد العربي الإسلامي الذي حبسته خرائط سايكس-بيكو البائسة عقوداً عجافاً. فالمارد ربما قد نجح في الخروج على شرط السكون، ولكن ما يصعب التنبؤ به هو قدرتنا على استدامة هذا التحول، فهل ستصمد تلك الحالة، أم ستنجح آليات القمع والتطويع والتدجين في إعادته إلى القمقم من جديد؟ فطوبى لنساء غزة وقد أعدن ثانية إنتاج التمرد على الخوف باعتباره شرط الأنثى في ثقافة الهزيمة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 6/2/2008