نريدها قرارات لا توصيات علي عبيد تصوروا لو أن مسؤولا في حكومة دولة أجنبية كفرنسا أو بريطانيا مثلا صرح بأن وزارته قد بدأت العمل لاعتماد اللغة العربية في جميع ما يصدر عن الجهات الرسمية وغير الرسمية فيها من مستندات مكتوبة أو منطوقة، والعناية بتوظيفها في المراسلات والعقود والمكاتبات، وفي الملتقيات والمؤتمرات وجميع المحافل.
لا شك أننا سنكون أسعد الناس لو أن شيئا من هذا حدث، لكنّ ما ينقص من سعادتنا أن يحدث هذا في «دولة الإمارات العربية المتحدة» التي تدخل «العربية» في صميم الاسم الذي تقدم به نفسها في المحافل العربية والدولية.
فقد بدأت وزارة التربية والتعليم بالعمل على ذلك «مؤخرا»، كما جاء على لسان معالي الوزير في افتتاح مؤتمر «اللغة العربية والتعليم.. رؤية مستقبلية للتطوير» الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي الأسبوع الماضي.
ليس ما يحزننا أن خطوة بديهية كهذه قد أتت في هذا الوقت المتأخر جدا فقط، ولكننا حزينون لأننا وصلنا إلى مرحلة أصبحنا فيها بحاجة إلى خطوات من هذا النوع، تعيد إلى لغتنا الأم مكانتها التي فقدتها على أيدينا إلى الدرجة التي أصبحنا معها نبحث عن الوسائل التي نعيد بها إليها مكانتها المفقودة وهيبتها المهدورة.
نحن لا نقلل من جهود وزارة التربية والتعليم والجهات التي تتعاون معها لتنفيذ هذا التوجه، لكننا نتفق مع معالي الوزير على أن هذه الجهود، وإن كانت فعالة على المستوى المحلي، فإنها لا تكفي بمفردها لمقابلة التحديات المعاصرة التي تواجه اللغة العربية وتواجهنا كدول عربية وإسلامية، وأن الأمر يتطلب مبادرات استراتيجية وخطط عمل إقليمية متكاملة، كما قال معاليه.
ولأن خطط العمل الإقليمية ناهيك عن القومية تبدو ضربا من المستحيل في ظل المرحلة التي تعيشها الأمة، رغم أن اللغة العربية لا تعاني في بقية أنحاء الوطن العربي ما تعانيه في بلدنا، فلا أقل من أن تتبلور لدينا خطط عمل «وطنية» تعيد للغتنا الأم مكانتها التي لم يعد لها وجود في كثير من المواقع التي تمثل اللغة فيها وسيلة التواصل الأولى، مما يعكس صورة لمجتمع فاقد لهويته،
إذا اعتبرنا اللغة مكونا أساسيا من مكونات الهوية الوطنية التي دعا صاحب السمو رئيس الدولة في كلمته بمناسبة العيد الوطني السادس والثلاثين إلى جعلها شعارا للعام الاتحادي الجديد.
نحن نحترم الجهود التي تبذلها وزارة التربية والتعليم لتعزيز اللغة العربية،
رغم اعتراف معالي الوزير بعدم كفايتها، ورغم عدم اقتناع الكثيرين بأن ثمة جهودا حقيقية تبذل من أجل ذلك، ليس من قبل وزارة التربية والتعليم فقط، وإنما من قبل كل الوزارات والمؤسسات ذات العلاقة بهذا الشأن،
لكننا نسأل عن «الجهات الرسمية وغير الرسمية» التي تهمش اللغة العربية، فمجرد الإعلان عن أن الوزارة بدأت بالتعاون مع عدد من الجهات في الدولة العمل على اعتماد اللغة العربية في جميع ما يصدر عن «الجهات الرسمية وغير والرسمية» من مستندات مكتوبة أو منطوقة، والعناية بتوظيفها في المراسلات والعقود والمكاتبات، وفي الملتقيات والمؤتمرات وجميع المحافل بحيث تكون هي اللغة الأولى، يعني أن هناك «جهات رسمية وغير رسمية» لا تستخدم اللغة العربية ولا تعتبرها اللغة الأولى.
إن الواقع الذي نعيشه في دولتنا يقول إن اللغة العربية تتراجع يوما بعد يوم، بل تكاد تختفي في كثير من مواقع العمل الحكومية، ناهيك عن الخاصة، وفي مؤسسات التعليم العالي الحكومية التي أصبحت تنافس الخاصة على التحول إلى التدريس باللغة الإنجليزية وتغييب اللغة العربية،
وفي مؤسسات التعليم الأساسي التي يبدو أنها تنحو أيضاً إلى هذا الاتجاه بشهادة العاملين في الميدان التربوي والتعليمي أنفسهم، وفي سوق العمل الذي أصبحت الإنجليزية (وحدها دون العربية) شرطا من شروط التأهل للوظائف فيه،
وفي مرافق الحياة كلها التي أصبحت العربية غريبة فيها لا يتحدث بها حتى أبناؤها خشية أن يُتَّهَموا بالجهل والتخلف. وفي هذا خرق لدستور الدولة وتجاوز لكل الاعتبارات والقيم التي يدعو إليها قادتها.
فأي إهانة أكبر من هذه يمكن أن تُوجَّه لأي لغة في العالم؟! وأي أزمة يمكن أن تتعرض لها لغة في الأرض أكبر من هذه الأزمة؟! إن المسألة تتعدى قضية إهانة اللغة إلى المساس بهوية البلد، وتتجاوز مفهوم الأزمة لأنها تمس كيان الأمة.
نحن لا نلقي باللائمة كلها على وزارة التربية والتعليم لأننا جميعا شركاء في المسؤولية، شاكرين للوزارة مبادرتها إلى احتضان «المركز التربوي للغة العربية لدول الخليج» الذي يأمل منه التربويون الكثير.
ولكن أي دور يمكن أن يقوم به مركز يتيم لمواجهة الطوفان الذي يوشك أن يقتلع لغة من أرضها؟ وإذا كان أعداؤنا يهتمون بلغتنا إلى درجة إنشاء أكاديمية متخصصة لعلومها وأبحاثها كما فعلت إسرائيل مؤخرا ليمدوا جسورا بيننا وبينهم، أفليس من باب أولى أن نهتم نحن بهذه اللغة التي تشكل أقوى الجسور بيننا، لنربط الجيل الحاضر بالأجيال الماضية،
ونهيئ للأجيال القادمة وسيلة للتواصل معنا كي لا نجد أنفسنا ذات يوم أمة بلا هوية تجمع بلدانها، ولا لغة تربط أبناءها، ولا ماضٍ تركن إليه في تخطيطها، ولا حاضر تأمن فيه على نفسها، ولا مستقبل تحافظ فيه على تماسكها؟
لا شك أن التوصيات التي خرج بها المؤتمر عظيمة ومهمة تستحق التذكير ببعض منها. فقد دعا المؤتمر إلى اعتماد اللغة العربية في جميع المراسلات الرسمية لكل دوائر الدولة، وتطوير نظام التقويم المعتمد في وزارة التربية والتعليم بدولة الإمارات
بما يؤكد إتقان اللغة العربية كتابة وقراءة وتحدثا في جميع المواد الدراسية. ودعا وسائل الإعلام العربية كافة المرئية والمسموعة والمقروءة لتبني سياسات واضحة بشأن استخدام اللغة العربية الفصحى فيها، بما يعزز هذه اللغة ويجعلها مرتبطة بكل شؤون الأمة وقضاياها وعلومها.
وشدد على ضرورة اعتبار قضية تعريب العلوم هدفا استراتيجيا، مع ضرورة البحث في الوسائل والسبل التي تحقق هذا الهدف، وعلى تعزيز حضور اللغة العربية في التعليم بكافة مواده ومستوياته، وتبني استراتيجية عملية تهدف إلى تمكين المؤسسات التعليمية المختلفة من التدريس بها بيسر وسهولة.
توصيات عظيمة ومهمة تستحق الإشادة بها والتصفيق الحار لها، لكنها تظل في خانة التوصيات إلى أن تتحول إلى قرارات. وتجربتنا على مدى عقود من الزمن تقول إن التوصياتِ تظل توصياتٍ حتى يتراكم عليها الغبار. ربما تجد من يخرجها من الأدراج ليعيد تقديمها بنصها أو بشكل مختلف، لكنها تعود إلى الأدراج مرة أخرى ليتراكم عليها غبار جديد.
ولأننا أمة ذات تجارب غير مشجعة، فإننا نطالب بأن تتحول هذه التوصيات إلى قرارات. وحين يحدث هذا نكون قد حققنا إنجازا غير مسبوق في تاريخ لغتنا العربية تتيه به فخرا على كل اللغات. فهل نحلم بشيء من هذا أم نطوي توصيات مؤتمراتنا ونعود مرة أخرى إلى السبات؟ . عن صحيفة البيان الاماراتية 28/1/2008