في الذكرى الخمسين لانبثاق «فتح»: ياسر عرفات والثورة الصعبة صقر ابو فخر قبل خمسين عاماً بالتمام، وفي الكويت بالتحديد، عقدت مجموعة فلسطينية صغيرة اجتماعا تاريخيا لم يكن ليعلم حتى أعضاؤها أنفسهم ما ستكون عليه حال الفلسطينيين جراء هذه الخطوة. وفي هذا الاجتماع الذي ضم ياسر عرفات وخليل الوزير وعادل عبد الكريم وتوفيق شديد ويوسف عميرة وعبد الله الدنان وُلدت الخلية الأولى لحركة «فتح» في تشرين الأول .1957 وقد قُيّض لهذه الخلية ان تصبح، في ما بعد، واحدة من أبرز حركات التحرر الوطني في القرن العشرين. بعد نحو ثماني سنوات أذيع البيان الأول ل «قوات العاصفة» في 1/1/,1965 فكان تدشينا لعصر جديد سيعم المنطقة العربية بأسرها، هو عصر الكفاح المسلح الفلسطيني. وعلى مدى أقل من عشر سنوات كانت «فتح» قد حفرت لنفسها مكانة لا تضاهى بين صفوف الشعب الفلسطيني، فكانت الرائدة في كل أمر تقريباً. فهي التي أوقدت شعلة الكفاح المسلح في 1/1/,1965 وقدمت أول شهيد هو أحمد موسى في 7/1/,1965 وأول أسير هو محمود بكر حجازي في 18/1/,1965 وأولى الأسيرات أيضاً أي فاطمة برناوي، وأول من صاغ فكرة الدولة الديموقراطية الفلسطينية التي جرى عرضها في المؤتمر الأول للمنظمات الفدائية في القاهرة في 7/1/.1968 وكانت حركة «فتح» أكثر تنظيم فلسطيني يستشهد فيه القادة المؤسسون، فعلاوة على ياسر عرفات وخليل الوزير (أبو جهاد) استشهد كل من عبد الفتاح حمود ومحمد يوسف النجار وكمال عدوان وصلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبد الحميد (أبو الهول) وأبو علي إياد، ومن بين قادة الصفوف الأولى استشهد كل من محمود الهمشري وسعيد حمامي ووائل زعيتر وعز الدين القلق وأبو حسن سلامة وسعد صايل (أبو الوليد) وغيرهم كثيرون. التجربة الجديدة لعل نقطة القوة في تجربة حركة «فتح» أنها لم تكن حزباً سياسياً يحمل السلاح بل جبهة وطنية حقيقية. فهي اتسعت لجميع التيارات السياسية التي كانت موجودة في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وتمكنت، الى حد كبير، من دمجها في نطاقها. ففي صفوفها كان هناك بعثيون سابقون أمثال خالد اليشرطي وعبد المحسن أبو ميزر وفاروق القدومي، وإخوان مسلمون سابقون أمثال أبو جهاد وأبو إياد وكمال عدوان (وهؤلاء كانوا انضموا إلى «الاخوان» لأسباب وطنية، لكنهم سرعان ما تركوا هذا التنظيم لأسباب وطنية أيضاً حينما اكتشفوا تقاعس الاخوان عن المسألة الوطنية وتركيزهم على المسألة الإسلامية)، وتحريريون سابقون أمثال خالد الحسن، ويساريون سابقون أمثال أبو صالح وأحمد عبد الرحمن وماجد أبو شرار ومنير شفيق، ووطنيون من مشارب شتى. ومنذ البداية، أي منذ ما بعد المؤتمر الأول في سنة ,1959 ظهر تياران في «فتح»: الأول، كان يرى ضرورة التروي قبل بدء العمليات العسكرية، وسمي أصحاب هذا التيار ب«العقلاء»، وكان منهم خالد الحسن وعادل عبد الكريم وعبد الله الدنان. أما الثاني فقد كان يرى ان من الضروري شن الكفاح المسلح في أقرب فرصة، ودعي أصحاب هذا التيار ب«المجانين»، وكان منهم ياسر عرفات وخليل الوزير. لقد تغلب «المجانين» على «العقلاء» وانطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة بعمليتين بسيطتين في ليلة رأس السنة (31/12/1964) ضد محطة ضخ المياه في البطوف (بيت نطوفا) في شمال فلسطين، وضد نفق عيلبون الذي ينقل مياه نهر الأردن الى اسرائيل. وبينما كان ياسر عرفات يجول على الصحف ووكالات الأنباء في دمشق وبيروت ليوزع عليهم البيان الأول ل «قوات العاصفة»، كان عصر جديد يوشك على الانبثاق. أليست الثورات، حتى المهدورة منها، نوعاً من الجنون الإنساني، أي أنها حلم مستحيل ربما يتحقق؟ هذا ما راهن عليه آنذاك ياسر عرفات. ياسر عرفات والوعود المؤجلة لست لأبالغ، على الإطلاق، إذا قلت ان ياسر عرفات هو ألمع قادة التحرر الوطني في العالم قاطبة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. والثورة الفلسطينية المعاصرة التي دشنتها «العاصفة» في 1/1/1965 كانت، في نهاية المطاف، من الوعود الخلابة التي أطلقها ياسر عرفات ورفاقه الكبار، وهي وعود طالما منحت الفلسطينيين الأمل بالعودة والتحرير، ومنحت العرب أيضاً طرازاً جديداً من العمل السياسي الثوري. غير أن الثورة الفلسطينية ليست مثل ثورات القرن العشرين الأخرى. فجميع الثورات اندلعت، على أرضها، ضد الاستعمار الذي انتهك أرضها، ونجحت، بعد نضال مرير، في دحر الاحتلال وتحرير الأرض ونيل الحرية والاستقلال معاً، هكذا كانت الحال في الجزائر وفي فييتنام وفي جنوب افريقيا على سبيل المثال. لكن الحرية والاستقلال أخلفا وعودهما في فلسطين حتى الآن. لماذا؟ لأن هذه الثورة كانت أصعب الثورات في القرن العشرين. فهي قائمة بين النفط وإسرائيل. فالنفط هو الكنز الذي لا يضاهى للاقتصادات الغربية. واسرائيل هي حارسة هذا الكنز الذي يجب ان يبقى قوياً ومتحفزاً ومدافعاً عن المصالح التي ينتمي إليها. وفوق ذلك، فهذه الثورة قامت، في الأساس، على أراض ليست أراضي فلسطينية بمفهوم سايكس بيكو، أي على الأراضي الأردنية والسورية واللبنانية. ولعل هذا العامل الجغرافي كان له الأثر الكبير في اشتباك مصالح الثورة بمصالح الأقطار العربية، الأمر الذي أدى، في كثير من الأحيان إلى الصدام الدموي كما حصل في الأردن ولبنان. ان هذه الشروط الموضوعية الصعبة التي ربما تبدو كأنها مستحيلة في بعض الأحيان، كانت في حاجة إلى مغامرين ثوريين او «عبقرية ثورية» من طراز ياسر عرفات والمؤسسين الكبار للثورة، حتى يمكن السير بها، بالفعل، في طريق الآلام والألغام وبين نقاط المطر القاتلة. وهذه «العبقرية» لم تتجل في أي نص فكري على طريقة المفكرين الثوريين في القرن التاسع عشر مثلاً، ولا في الكاريزما الفردية الساحرة على غرار تشي غيفارا او كاسترو او جمال عبد الناصر، لكنها تجلت، أولاً وقبل أي شيء آخر، في الفاعلية الثورية، وفي الجهد المتفاني في سبيل تحرير فلسطين. وهنا بالذات يكمن شأن ياسر عرفات ورفاقه، وربما رساليتها التي جعلت الفلسطينيين شعباً حقاً، بعدما حولته نكبة 1948 الى لاجئين في الدول العربية، او رازحين مباشرة تحت الاحتلال الاسرائيلي، او ملحقين وتابعين للإدارة المصرية في غزة، او مندمجين في إطار سياسة «الأردنة» في الضفة الغربية. انها «ثورة بساط الريح» كما أسماها قائدها التاريخي ياسر عرفات. فمن عمليات الاستطلاع الأولى قبيل انطلاقة الثورة التي نفذها نفر من الفدائيين الأوائل أمثال زياد الأطرش وشقيقه أحمد الأطرش وآخرون، الى البيان الأول ل«قوات العاصفة»، فإلى تأسيس القواعد السرية، ثم الى بناء قواعد الإسناد في الأردن، فالى الانطلاقة الثانية بعد معركة الكرامة في 21/3/1968 حتى مرحلة النهوض الثوري بعد أزمة أيلول في الأردن، ذلك كله محطات عاصفة في مسيرة طويلة من الكفاح الصعب والقاسي والمليء بالعوائق المميتة. إن هذه المسيرة ما كان في إمكانها ان تخطو نحو أهدافها وهي محاطة بأعدائها والخائفين منها و المتوجسين بها، لو لم يكن ياسر عرفات هو قيدومها الحقيقي. ولا غرابة، إذاً، ان تحاول اسرائيل، مرات شتى، أن تغتاله بهذه الطريقة او تلك. وللتذكير فقط، فان ياسر عرفات هو الذي رفض التنازل ولو عن شبر واحد من القدس، فضلاً عن حق العودة، في مفاوضات كامب دايفيد 2 في سنة ,2000 وهو الذي رفض ان يوقف المقاومة في سنة ,2002 فما كان من اسرائيل الا ان حاصرته، وكانت فوهات مدافعها عند نوافذ غرفة نومه في رام الله. وعندما لم يغير نهجه ضيقت عليه الحصار، وتمكنت من اغتياله أخيراً. وللمقارنة فقط، فان البعض، ما إن لاح له طيف السلطة، حتى ذهب مسرعاً إلى جنيف ووقع ورقة قبل فيها ما هو أدنى من إعلان اوسلو، أي فكرة «الدولة الموقتة». هوذا ياسر عرفات، الربان الذي قاد سفينة شعبه في لجج عاتية، وحارب في قفار العرب كلها مثل بطل إغريقي، وكان يعرف أن الموت متربص به في كل لحظة، وكان يعلم ان هذه المفازات الخطرة، لا بد من اجتياز أهوالها حتى يظفر بالحرية، فبادر إليها غير هيّاب. فكان الموت يهاب منه أحياناً، حتى استشهد مرابطاً في ثغر رام الله. عن صحيفة السفير اللبنانية 3/1/2008