أجيالٌ غفيرةٌ،أثناءَ الاستقلال وبعده -في بلدي الحبيب الجزائر- تَدين بالفضل والسبق في تجذير هويتنا وأصالتنا العربية الإسلامية وغرسهما في شغاف كينونتنا الجزائرية...تَدينُ لِ؛ "جمعية العلماء المسلمين" و لرواد المقاومة الفكرية الباسلة فيها ، وأخص بالذكر هامتَيها العَلَمَين الباذخين ؛ العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس(واضع الحجر الأساس ورئيس جبهة العلماء في بلدي) و العلامة المربي الكبير الشيخ محمد البشير الإبراهيمي(الرجل الثاني في جمعية العلماء) طيب الله ثراهما وأكرم وفادتهما عنده في عليين..
نستذكرُ نحن هنا في الجزائر -حتى يعلمَ إخواننا المشارقة- في دورة كل حولٍ ميلادي ، وفي منتصَف الشهر الرابع فيه ، أعني تحديداً؛في السادس عشر من شهر نيسان(إبريل)..نستذكر مناسبةً رائدةً غاليةً علينا جميعا-خصوصاً أهل العلم والفكر والثقافة فينا-أجمعنا على تسميتِها غداة الاستقلال،منذ ستين عاماً تقريباً بِ "مناسبة يوم العلم"التليدة..وهي الذكرى التي تصادف وفاة الشيخ المؤسس الرائد العلامة ابن باديسَ-عليه سبائغ الرحمة-وقد انتقل الرجلُ الكبيرُ إلى جوار ربه،في اليوم المذكور من شهر إبريل عام1940للميلاد...
والشيخ ابن باديس عندنا في الجزائر،هو باعث نهضتها العربية الإسلامية..وهو الرجل الرباني المصلح الملهم الذي أكرم الله به بلدي في فترة استعمارية عصيبة،كان الاستدمار الصليبي الفرنسي قد أمِنَ -أو هكذا ظن- من أن موجةَ المسخ والتغريب و(التفرنس) قد اكتسحت الأبدانَ والعقولَ، وأن الإسلام قد أُجهِزَ عليه في ضمائر الناس وقلوبهم،وأن العربيةَ قد اضمحلت في ألسنهم أوتكاد،وأن مدة قرنٍ ونيف قرنٍ من الزمان كفيلةٌ لطمس معالم الدين والهوية والأصالة والنورالقرآني الذي شع على تراب بلادي(الأمازيغية) منذ القرن الهجري الأول،حين أوصلَ ضياءَهُ لنا رجلٌ عظيمٌ من رجالات الفتح الإسلامي الكبار،هو سيدنا القائد الفاتح العظيم عقبة بن نافع الفهري-رضي الله عنه-(مؤسس القيروان التونسية، وفاتح المغرب العربي الإسلامي،ودفينُ بلدةٍ جميلةٍ صغيرةٍ تسمت باسمه .
ومن حسن أقداري أنها تبتعد عن مسقط رأسي بمسافة قصيرة،وقد زرتُ ضريحَه -اعتزازاً واستعباراً- مراتٍ عديدة،وهو في نظري المتواضع أعظمُ شخصيةٍ إسلاميةٍ ضمها ترابُ المغرب العربي الإسلامي كله...!!!)...اعتقدت فرنسا الصليبية الاستدمارية أن روحَ بطرس الناسك قد سرت سمومُها في شرايين العباد والبلاد،وأن جزائر عقبة وزهير بن قيس وحسان بن النعمان البكري وجزائر الضاد والشرق قد أفلت وانتهت،إذا ببعث إسلامي عربي يستيقظ كالمارد بين الركام،وإذا برجلٍ قصير القامة،معمم بعمة العلماء،يدرس العربيةَ وعلومَ الشريعة في الزيتونة بتونس الشقيقة،ثم في رحلة مناسك إلى أرض الحجاز،يستقر به الحالُ في طيبة النبوية،وهناك بين جنبات المسجد النبوي الشريف،يلتقي ابن باديس لأول مرة بالشيخ الإبراهيمي،فتذاكرا سوياً حال الجزائر الجريحة،ووجدا في بعضهما هموماً وشجوناً مشتركة،ووجدا قرابةً عقليةً ووجدانيةً جامعةً،فقررا البدءَ في العمل فوراً .
وعند العودة انطلقا يؤسسان الجمعيةَ التي ستشتبك مع الأوضاع المزرية المعقدة الموروثة استدمارياً عن(الاستعمار)كالجهل والأمية الفكرية والحضارية والإنسانية،وكانتشار البدع والخرافات والضلالات والانحرافات العقائدية المختلفة،وكتفشي الفقر والعَوَز وباقي الآفات الاجتماعية...وبدأ الرجلان في حشد فلول علماء البلاد(في الداخل والخارج)،وعَمِلاَ على تجميع طاقاتهم الأصيلة ورسكلتِها تنظيمياً.
فكان التأسيس الخالد عام1931للميلاد..وانطلق الرجلان الكبيران-ومن ورائهما جيوشٌ من علماء الجمعية وأساتذتها ومربيها-يجوبون شرق البلاد وغربها،يُؤسسان عشرات المدارس والمعاهد الأصيلة التي ستعيد للإسلام والعربية وجههما المشرق الوضيء،وذهبَا ينشئان سرباً من الجرائد والصحف كَ(الشهاب والمنتقد والبصائر)طارت كشموسٍ مشعةٍ تكتسح الأجواءَ فتغسلها من أدران الاستدمار وسمومه الموغِلة،وأحسبني أن الرجلين الكبيرين،جَابَا تسعة أعشار رقعة البلاد بمدنها الكبرى وقراها وفيافيها الواسعة،يوقظان الهممَ وينشران الوعيَ وينبهان لدسائس المستدمر ومكائده،ويعيدان ربطَ الأوصال الممزعة بالقرآن والسنة النبوية الصحيحة واللغة العربية الرقراقة،ويبنيان جيلَ البعث الذي سيقارع فرنسا في ملحمة فصل الخطاب..!
فما مر وقتٌ قصير حتى عادت للإسلام عافيتُه،وإذا بالقرآن الكريم يعود مرة أخرى يُتلى في المساجد والزوايا(وهي كتاتيب حفظ القرآن)يُتلى غضا ندياً كما أُنزل،وإذا بالعربية الفصحى تتفجر رقراقةً في إلهام الأدباء والشعراء وأهل القريض ، وإذا بالمجتمع يترقى في وعيه الإسلامي رجالاً ونساءً،وإذا بفرنسا تلمح الخطر القادم على مستقبلها الاستدماري ومخططاتها الماسونية(الفرونكوفونية)الهدامة البعيدة المدى،لتبدأ حرب التشهير والمواجهة والتضييق والتشويه،وقد عانى الرجلان الكبيران-وكذا رجال الجمعية وإطاراتها ومؤسساتها وصحفها-من الإيذاء والسجن والاغتيالات والغلق والمصادرة،ما تنوء بحمله الجبال..!!.
إن الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس ونائبه العلامة محمد البشير الإبراهيمي-أحبتي وأهلي وإخواني في مصر الحبيبة والمشرق العربي الإسلامي-صنعَا من مجد الأمة ونهضتها من كبوتها الحضارية،نفس ما صنعه رواد النهضة العظماء الآخرون والذين نعرفهم جيداً-هنا في الجزائر وبلاد المغرب العربي الإسلامي عموماً-ونعتز بهم ونتشرف بالولاء لفكرهم وإنجازاتهم التليدة،كالمصلح الكبير الشيخ جمال الدين الأفغاني وتلميذه الإمام الأكبر الشيخ محمد عبده، وتلميذه (صاحب مدرسة المنار)الشيخ رشيد رضاو الشيخ عبد الله النديم والإمام المجدد حسن البنا...والمصلح الثائر الشيخ عبد الرحمان الكواكبي والشيخ أمجد الزهاوي...وباعث تركيا الإسلامية المربي والمصلح الإسلامي الكبير بديع الزمان النورسي...وغيرهم وغيرهم من نجوم أمتنا الأفذاذ..
إن رجالات الإسلام سواء على تباعد الأقطار والمسافات والأزمان،وكلهم في ميزان البعث والنهضة سيانٌ....وأنا رأيت العلامة الإبراهيمي في أرشيف الصور يجلس في مصر العزيزة مع الأستاذ الأديب عزام باشا(أول أمين عام لجامعة الدول العربية) ومع مجدد القرن الإمام الشهيد حسن البنا،ومع أعلام الأزهر الكبار؛العلامة الشيخ أحمد عبده الشرباصي والعالم الجليل عبد اللطيف دراز والداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي..ورأيته يجالس في بلاد الشام والعراق عليةَ القوم العلمية والفكرية كالمربي الكبير العلامة حسن حبنكة الميداني والشيخ العالم الورع أمجد الزهاوي(كبير علماء العراق)وكذا العلامة الداعية الكبير محمد محمود الصواف...رحمهم الله جميعا..
وهو إن دل على شيءٍ فإنما يدل على مكانة مصلحينا وعظمائنا عند بعضهم البعض،وأنا أعلم أن الكثيرين من أساتذتنا وعلمائنا المعاصرين-الأحياء خاصة-من يعرف الكثير الكثير عن جمعية العلماء ورجالها العلماء،بيدَ أن عتاباً أخوياً خفيفاً أهمس به لبعض الإخوة في مصر الحبيبة وغيرها،حين يُذكر رجلٌ كالإبراهيمي أو ابن باديس أوغيرهما من أعلامنا،فلا أجد من يعرف عنهم-من الجيل الحاضر خاصةً-إلا القليل..!!.
ولعل-من باب الاعتراف بالتقصير-أن أقول؛لعل السبب هو نحن الأحفاد الذين لم نحسن إسماع إخواننا بأعلامنا بالفاعلية المطلوبة،ونحن على كل حال نعترف بذلك على استحياء..!!!.وعموماً،لعل هذه الفرصة المعطاة لنا حين فتحت(محيط)أحضانها الأخوية دون قيد أوحجر،سترفع بعض الغَبَش ،فيقترب أعلامُنا أكثر فأكثر إلى عقول وقلوب أبناء أمتهم الواسعة العريضة... ونعود إلى الشيخين العلمين ابن باديس والإبراهيمي...ونعود لذكرى يوم العلم السنوية.... والحمد لله رب العالمين...
إننا نحن اليوم-جيل جزائر الاستقلال-نعتز بأننا الثمرة الطبيعية،ونشأ الرجاء،وفجر الصباح،الذي زرعه العَلَمَان العظيمان في تربة هذه البلاد المجاهدة الشهيدة الطيبة،بل نحن امتدادٌ موصول لجيل ثورتنا المباركة الذي رباه ابن باديس والإبراهيمي على عينهما،فلم يلبث حتى كسر أنف فرنسا في ملحمة ثورية دفع شعبي الباسل في سبيل حريته واستقلاله ما يربو عن المليون ونصف المليون من خيرة أبنائه الصناديد الشهداء...
ومع علمي أن رواسب الأستدمار وبقاياه الفكرية واللسانية،مازالت تناوش الأصالةَ والهوية(الحقيقية) للشعب الجزائري المسلم إلى هذه اللحظة التي أسطر فيها هذه الكلمات،إلا أن صلابة الغرس الذي زرعته جمعية العلماء،استعصى-ولايزال مستعصياً بإذن الله-عن الاهتزاز أوالاستئصال،وهيهات...!!!.
فالمعادلة المنصفة المتوازنة التي ربانا عليها ابن باديس والأبراهيمي،والتي من خلالها اجتمعت كل مقومات وجودنا دون غمط أو تمحل،هي إحساسي المتجدد كَ(جزائري أمازيغي أصيل عربني الإسلامُ)ولا يمكن أن (أتمزغ)بغير الإسلام والعربية..!!!.وحسبي هذه القناعة....
أما مناسبة يوم العلم-وأحببتُ أن أنوه بذلك بحكم انتسابي لجبهة التربية والتعليم-فأحب أن أميط اللثامَ عن هذه الومضة المنيرةالتي وجدتها في آثار المربي الكبير،الأستاذ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-طيب الله ثراه-وهي عبارة،عن توجيه تربوي أبوي حانٍ إلى كل معلمٍ ومربي،في هذا الطريق الذي شرفنا الله تعالى بالسير فيه...
قال-عليه سحائب الرحمة-في كلمةٍ جامعةٍ لفلول المربين ؛ (( أبنائي المعلمين الأحرار...ها أنتم-هؤلاء-تربعتم من مدارسكم عروشَ ممالكَ؛رعاياها أبناءُ الأمةِ وأفلاذِ أكبادها،تدربون نفوسهم على الدين وحقائقه،وألسنتهم على اللسان العربي ودقائقه،وتسكبون في آذانهم نغمات العربية،وفي أذهانهم سر العربية،وتدربون أرواحهم بالفضيلة والخُلق المتين،وتروضونهم على الاستعداد للحياة الشريفة بعد أن تُجتث من نفوسهم بقايا آثار المنزل الجاهل والأب الغافل،وتقودونهم-بزمام التربية-إلى مواقع العبر من تاريخهم ومواطن القدوة الصالحة من سلفهم ومنابت العز والمجد من مآثر أجدادهم الأولين...
ثم احرصوا على ما تقولونه لتلامذتكم من الأقوال منطبقاً على ما ترونه وما يشاهدونه منكم من الأعمال،فإن الناشئ الصغير مرهَفُ الحس،طلعةٌ إلى مثل هذه الدقائق التي تغفلون عنها ولا ينالها اهتمامكم،وإنه قوي الإدراك للمعايب والكمالات..!! فإذا زينتم له الصدقَ فكونوا صادقين،وإذا حسنتم له الصبرَ فكونوا من الصابرين،واعلموا أن كل نقش تنقشونه في نفوس تلامذتكم من غير أن يكون منقوشاً في نفوسكم فهو زائل!!
وإن كل صبغٍ تنفصونه على أرواحكم من قبل أن يكون متغلغلاً في أرواحكم فهو-لامحالة-ناصل...أوصيكم بتقوى الله،فهي العُدة في الشدائد والعون في الملمات وهي مهبط الطمأنينة وهي مُتنزل الصبر والسكينة،وهي مبعث الرجا واليقين وهي مراقي السمو إلى السماء وهي التي تثبت الأقدام في المزالق وتربط على القلوب في الفتن..وأوصيكم بحسن العشرة مع بعضكم إذا اجتمعتم،وبحفظ العهد والغيب إذا افترقتم..إن العامةَ التي ائتمنتكم على تربية أبنائها،تنظر إلى أعمالكم بالمرآة المكبرة،والخافتة من أقوالكم،تسمعها جهيرةً فاحذروا ثم احذروا..!!.
أي أبنائي....إن هذا القلب الذي أحمله،يحمل من الشفقة عليكم والرحمة بكم،ما تنبت منه الحبال،وتنوء بحمله الجبال،وهو يرثي لحالكم من الغربة وإلحاح الأزمات،ويَود لو يُقطعُ وَتينُه ما أزيحت عللكم،ورُقِعَ بالسداد خَلَلُكُم،ولكنكم جنودٌ،ومتى طمع الجنود في رفاهية العيش؟؟!!وأسودٌ،ومتى عاش الأسدُ على التدليل؟؟!!وهو الذي يشعر أن التدليلَ تذليل..!!إ نكم-يا أبنائي-رجالُ حركةٍ،فلا تشينوها بالسكون،وأبطال معركةٍ فلا يكن منكم إلى الهوينى ركون..!! والسلام))...
وتحيةُ علمٍ وإجلالٍ وتقديرٍ-بهذه المناسبة-إلى كل إخواني وأخواتي الأساتذة والمعلمين والمربين ، المجاهدين الأبطال -رفقاء الدرب والمسيرة-في أرض الكنانة وعلى امتداد عالمنا العربي والإسلامي.....