ما بعد أنابولس والأمل المهدور توفيق المديني الإخفاق الحقيقي هو العنوان الأكثر ملاءمة لاجتماع أنابولس الذي عقد في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والذي لم يكن مختلفاً في شيء عن قمتي شرم الشيخ عامي 2005 و،2007 وكذلك قمة العقبة عام ،2003 فمنذ المفاوضات الحقيقية التي بدأت في طابا يناير/كانون الثاني عام ،2001 تكاثرت اللقاءات من هذا القبيل من دون أن تكون لها تأثيرات حقيقية على صعيد التقدم باتجاه إقامة دولة فلسطينية مستقلة. بل إن ما نشهده منذ إخفاق اتّفاقيات أوسلو هو تجزئة الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة إلى عدّة معاقل على طراز البانتوستات، واتجاه الوضع في فلسطين نحو هاوية تمييزٍ عنصري جديٍد، بدل توّجهه نحو ظهور دولة فلسطينية قابلة للحياة. ومنذ العام ،2002 تجزّأت الإدارة الفلسطينية أكثر بعد إنشاء جدار فصلٍ يتخطّى طوله 700 كلم، سيقتطع من الضفّة الغربية، بعد الانتهاء منه، 46% من أراضيها. في الواقع لا تختلف “آلية السلام" في أنابولس عن الآليات الأخرى التي شهد الشرق الأوسط إخفاقها جميعاً في غياب التزام وتصميم من المجتمع الدولي على فرض احترام إرادته: ف"إسرائيل" لن تفي بالتعهدات التي قطعتها ولن تمارس الولاياتالمتحدة الضغط عليها من أجل ذلك. فالإدارة الأمريكية ترغب خصوصاً في عقد تحالفٍ للمعتدلين العرب ضد إيران التي ما زال البعض في أوساط هذه الإدارة إضافة إلى “إسرائيل" يحلمان بالاعتداء عليها. عقد اجتماع أنابولس، ووثيقة التفاهم المشترك التي صدرت عنه، أسقطتها “إسرائيل" بعد ساعات وبدعم أمريكي.فالإدارة الأمريكية تعهدت بطرح مبادىء الوثيقة في إطار قرار مجلس الأمن يدعم مسيرة أنابولس، لكن الإدارة عادت وتراجعت عن مشروعها ولم تلتزم بتعهداتها، تحت الضغط “الإسرائيلي" الرافض للسير بهذا المشروع إلى النهاية، لأن “إسرائيل" ببساطة لا تريد شيئا من مجلس الأمن، ولأنها لا تريد في الأساس قرارات دولية جديدة، ولا تريد دوراً للأمم المتحدة. وهكذا، فإن الحراك الدبلوماسي الراهن من أنابولس إلى مؤتمر باريس للمانحين وتقديم الدعم السياسي والمالي للسلطة الفلسطينية الذي عقد في 17 ديسمبر الجاري، لا ينبئ بعملية سلام، لا يتوقّعه رئيس الوزراء “الإسرائيلي" الحالي إيهود أولمرت قبل.. “عشرين أو ثلاثين عاماً". وعلى الرغم من أن اجتماع “أنابولس" حدد أفقا سياسيا “يتمثل في السعي معا من أجل إنشاء دولة فلسطينية مستقلة وديمقراطية وقابلة للحياة، تعيش بسلام وأمن إلى جانب “إسرائيل"، قبل نهاية عام ،2008 فإن اولمرت تراجع عما ورد في نص وثيقة أنابولس لجهة الالتزام بالانتهاء من المفاوضات حول القضايا الجوهرية، أي قضايا الحل النهائي قبل نهاية العام ،2008 وتراجع عن تصريحاته التي أشار فيها إلى التزام بها قبل انتهاء ولاية الرئيس جورج بوش عام 2008. لا مؤتمر باريس للدول المانحة الذي أظهر التزامًا بدعم إقامة دولة فلسطينية من خلال تعهدات مالية فاقت التوقعات، إذ بلغت 4.7 بليون دولار لتعزيز الاقتصاد الفلسطيني على مدى السنوات الثلاث المقبلة، ولا اللقاءات بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء “الإسرائيلي" إيهود أولمرت، ولا الجولات المكوكية التي قامت بها وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، استطاعت أن تردم هوة الريبة وعدم الثقة العميقة التي حفرتها الانتفاضة الفلسطينية الثانية. ولم يكن عدم التماثل بين الطرفين الرئيسيين الفلسطيني و"الإسرائيلي" كبيرا كما هو اليوم. ففي الجانب الغربي من “الجدار الأمني" الذي بنته “إسرائيل" في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة بعد ،1967 تم إغلاق قوسي العمليات الاستشهادية التي جاءت بها الانتفاضة الفلسطينية الثانية، باستثناء بعض عمليات المقاومة حول نطاق غزة، ولا يزال الاقتصاد “الإسرائيلي" في وضع جيد على الرغم من مسلسل الفضائح المالية السياسية التي ارتبطت باسم أولمرت، حتى وإن أسهمت هذه الفضائح إضافة إلى حرب تموز 2006 ضد لبنان، في إضعاف رئيس الوزراء “الإسرائيلي". وفي الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، عمت الكارثة على الشعب الفلسطيني، ولا سيما في بعدها الاقتصادي بسبب الحصار الدولي و"الإسرائيلي" وما نجم عنه من تفاقم كساد اقتصادي عنيف أقوى بما لايقاس من الكساد الذي شهدته أزمة الرأسمالية في عام ،1929 حسب تقرير البنك الدولي، ويضاف إلى كل هذا، الشرخ العميق الذي حل بالجسم السياسي الفلسطيني عقب سيطرة “حماس على قطاع غزة، وتسارع خطط توسع الاستيطان بعد أيام من اجتماع أنابولس، وهو الوضع الذي دفع الرئيس عباس إلى دعوة “إسرائيل" في مؤتمر باريس للمانحين إلى وقف أعمال الاستيطان بلا استثناء، وتفكيك 127 مستعمرة أنشئت منذ العام ،2001 وإلى فتح المؤسسات الفلسطينية المغلقة في القدس، ورفع الحواجز، ووقف بناء جدار الفصل، والإفراج عن الأسرى. الائتلاف الحاكم في الكيان الصهيوني بزعامة أولمرت لا يسير على طريق مفاوضات الحل النهائي، بدليل أن “الإسرائيليين" بعد أنابولس مباشرة، أعلنوا أنهم يبنون 307 وحدات استيطانية جديدة في أبوغنيم في القدس، وهي رسالة واضحة أن الصهاينة لا يريدون التفاوض وأن مشروعهم هو الاستيطان، وأن “إسرائيل" تميز بوضوح بين الضفة الغربيةوالقدسالشرقية التي تقع تحت السيادة “الإسرائيلية" حسب قول المتحدث باسم رئيس الوزراء مارك ريغيف، الذي أضاف: “أن “إسرائيل" لم تقطع يوما تعهدا لتقييد سيادتنا في القدس. وأن تنفيذ المرحلة الأولى من خارطة الطريق لا ينطبق على القدس". بالمقابل، فإن الرئيس محمود عباس ظل وفياً لقناعته التي يدافع عنها منذ ثلاثين سنة وهي تفضيله المفاوضات لقيام دولة فلسطينية مزدهرة اقتصاديا تابعة ل “إسرائيل" على خيار المقاومة المسلحة، لكنه الآن يترأس فلسطين المتفجرة بين سلطتين واحدة في الضفة الغربية وأخرى في غزة. فهل سيشجع ضعف السلطة الفلسطينية القيادات الصهيونية على قبول أبومازن وسلام فياض شريكين، بل الشريكين الوحيدين في إنشاء كيان فلسطيني، وتقويض “حماس" في غزة للحؤول دون سيطرتها على الضفة الغربية؟ عن صحيفة الخليج الاماراتية 27/12/2007