أسعار الموز والتفاح والفاكهة في الأسواق اليوم الأربعاء 15 أكتوبر 2025    ترامب يكشف تفاصيل محادثته مع حماس بشأن نزع السلاح: سنتدخل بالقوة لو لم يفعلوا    مندوب فلسطين بالجامعة العربية: قمة شرم الشيخ محطة فارقة وضعت حدا للعدوان    كوت ديفوار تعود إلى كأس العالم بعد غياب 12 عاما    كندا ترغب لتعزيز العلاقات مع الصين والهند مع تمسك ترامب برسومه الجمركية    مصر ومؤتمر السلام بشرم الشيخ: من الدبلوماسية الهادئة إلى توظيف الزخم سياسيا واقتصاديا وسياحيا.. وجود القاهرة على أى طاولة تفاوض لم يعد خيارا بل ضرورة.. وتصريحات ترامب عن الجريمة فى بلاده اعتراف أن مصر بيئة آمنة    كوت ديفوار تفوز بثلاثية أمام كينيا وتعبر إلى كأس العالم    إسبانيا تكتسح بلغاريا برباعية في تصفيات المونديال    هاني رمزي: أسامة نبيه أخطأ في تصريحاته عن منتخب الشباب    تأهل منتخب إنجلترا لكأس العالم 2026 بعد اكتساح لاتفيا بخماسية    يتيجي يقود إيطاليا للفوز بثلاثية نظيفة علي إسرائيل    موعد مباراتي العراق والإمارات في الملحق الخامس ب كأس العالم 2026    مصرع شخصين في تصادم سيارتي نقل على الطريق الصحراوي الغربي بالمنيا    المؤبد و غرامة 100 ألف لعاطل بتهمة الاتجار في المواد المخدرة بقنا    لا تنجرف في الكلام.. برج الجدي اليوم 15 أكتوبر    معرض حى القاهرة الدولى للفنون فى نسخته الخامسة لمنطقة وسط البلد لعرض أعمال ل16 فنانا    أكرم القصاص: على الفصائل الفلسطينية إعادة ترتيب أولوياتها وتوحيد الصف    كم تبلغ تكلفة إعادة إعمار غزة؟ مندوب فلسطين يكشف    «توت عنخ آمون يناديني».. الكلمات الأخيرة ل «كارنافون» ممول اكتشاف المقبرة الملكية (فيديو)    ازدحام مروري سيعرقل مسارك.. حظ برج القوس اليوم 15 أكتوبر    في 3 أيام .. وصفة بسيطة لتطويل الأظافر وتقويتها    تعادل مثير بين البرتغال والمجر بثنائية لرونالدو وسوبوسلاي    السنغال تحسم التأهل إلى المونديال بعد رباعية موريتانيا    سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء الأربعاء 15 أكتوبر 2025    سعر الدولار مقابل الجنيه والعملات الأخرى بداية تعاملات الأربعاء 15 أكتوبر 2025    «تقلوا هدومكم».. تحذير من حالة الطقس اليوم : درجة الحرارة 11 ليلا    باختصار.. أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. تجدد الاشتباكات بين القوات الأفغانية والباكستانية.. نتنياهو: لن ندخر أى جهد لإعادة رفات المحتجزين فى غزة.. 90% من شوارع قطاع غزة تضررت جراء الحرب    متحدث الري: التغيرات المناخية تؤثر بشكل واضح على قطاع المياه في كل العالم    وزير الاستثمار: الحكومة المصرية ملتزمة بتعزيز الشراكة مع مجتمع الأعمال الأمريكي    فصل الكهرباء عن عدة قرى بالرياض في كفر الشيخ غدًا لمدة 5 ساعات    الجنايات تقضي بالسجن المؤبد على تاجر شابو في قنا    ارتفاع عدد ضحايا حادث سقوط تروسيكل أسيوط إلى خمسة طلاب    باسم يوسف: أكل عيش أني أعارض دايمًا.. والشهرة وجعت دماغي    جيش الاحتلال: الصليب الأحمر في طريقه لتسلم جثامين أسرى إسرائيليين جنوب غزة    زي بتاع زمان.. الطريقة الأصلية لعمل الفطير المشلتت    متى يكون سجود السهو قبل السلام؟.. أمين الفتوى يوضح حكم من نسي التشهد الأوسط    السفير صلاح حليمة: الاحتجاجات في مدغشقر تطورت إلى استيلاء على السلطة بحماية النخبة    هل شراء شقة عبر البنك يُعد ربا؟.. أمين الفتوى يوضح    الجامعة الأمريكية تنظم المؤتمر ال 19 للرابطة الأكاديمية الدولية للإعلام    سعر مواد البناء مساء اليوم الثلاثاء 14 أكتوبر 2025    مدير مكتب تأهيل الخصوص في تزوير كروت ذوي الإعاقة: «طلعتها لناس مكنش ليهم محل إقامة عندي» (نص التحقيقات)    في هذا الموعد.. محمد فؤاد يستعد لإحياء حفل غنائي ضخم في بغداد    محافظ كفرالشيخ يتفقد مستشفى قلين ويشدد على جودة الرعاية وحسن معاملة المرضى    تناولت مادة مجهولة.. مصرع طالبة في الصعايدة بقنا    مونلى صديق سوزى يتبرأ منها أمام النيابة: " ظهرت معاها بس عشان نزود متابعين"    ورشة عمل لاتحاد مجالس الدولة والمحاكم العليا الإدارية الإفريقية    وكيل شباب ورياضة الجيزة يتابع تطوير مركز شباب الديسمي لخدمة المتضررين من السيول    مواصفة امتحان مادة الدين فى اختبارات الشهر للمرحلة الابتدائية    زيادة ربع مليون نسمة في تعداد سكان مصر خلال 60 يومًا    ب36 شخصية رفيعة.. قارة آسيا تتصدر الحاصلين على قلادة النيل    دار الإفتاء توضح حكم تنفيذ وصية الميت بقطع الرحم أو منع شخص من حضور الجنازة    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 14-10-2025 في الشرقية    جامعة جنوب الوادي تنظم ندوة حول "التنمر الإلكتروني"    وفد رفيع المستوى من مقاطعة جيانجشي الصينية يزور مجمع الأقصر الطبي الدولي    وكيل صحة المنيا يفاجئ وحدة أبو عزيز ويحيل طبيبة للتحقيق بسبب الغياب    تألق مصري عالمي.. محمد صلاح في قائمة أفضل 50 لاعبًا خلال العقد الأخير    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 14-10-2025 في محافظة الأقصر    إثيوبيا ترد على تصريحات الرئيس السيسي: مستعدون للانخراط في مفاوضات مسئولة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دروس وعبر من الأزمة الصومالية/د. طالب مراد
نشر في محيط يوم 04 - 12 - 2008


دروس وعبر من الأزمة الصومالية

د. طالب مراد

وصلت إلى مقديشو قبل عقدين من الزمن وبقيت فيها ثماني سنوات للعمل كمستشار ثم ممثل لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو). وصلت صباح يوم جميل وانبهرت بالبيوت الجميلة و المدينة الصغيرة الواقعة على المحيط الهندي؛ حيث أن البيوت كانت تطلى سنويا باللون الأبيض للحوائط و الأزرق للأخشاب وكان هذا أمرا إلزاميا.

ولم يكن بالمدينة كلها سوى عمارة واحدة بمصعد كهربائي. هذه المدينة التي ارتبط بها أماني الشعب الصومالي وكانوا يحلمون بأن تكون عاصمة للصومال المنقسمة إلى خمس دول مثلما تؤشر النجمة الخماسية الزرقاء التي تتوسط العلم الصومالي.

بعد الحرب العالمية الثانية كان الشعب الصومالي مقسم إلى: الصومال الفرنسي،وهو جيبوتي الحالية ، وهناك الصومال البريطاني (شمال الصومال الحالية أو ما يسمى بأرض الصومال، ثم الصومال الإيطالي وهى جنوب الصومال الحالية، وهناك المنطقة الشمالية الشرقية في كينيا، وأخيراً مقاطعة أوغادينا في إثيوبيا.

في أغسطس/ آب 1944 وبعد سقوط الحكم الفاشي في إيطاليا طلبت بريطانيا جمع كل هذه المقاطعات في دولة واحدة، لكن الأمريكيين رفضوا لأن حليفهم الإمبراطور هيلاسي لاسى في إثيوبيا كان معارضا للاقتراح البريطاني، و هذا ما سبب بعض المشاكل بين الدولتين الكبيرتين. و منذ ذلك الوقت وإلى الآن لم ولن ينسي الصوماليون هذا الموقف الأمريكي. فعداء الصوماليين للأمريكان له جذور تاريخية.

والموقف الأمريكي بالنسبة للصوماليين يشبه موقف العرب من وعد بلفور البريطاني إذ لازال الكثير يحمل غضبا ضد بريطانيا بسبب هذا الوعد.

وفي أواسط 1960 أعطت كل من إيطاليا و بريطانيا الاستقلال لكل من الصومال الإيطالي و البريطاني، و لأول مرة اتحد جزءان من أجزاء هذا الوطن المشتت، و كونوا جمهورية الصومال و التي غدت عاصمتها مقديشو.

ويعد الشعب الصومالي من أكثر شعوب العالم تجانسا فجميعهم مسلمون، سنيون شافعيون. وأكثريتهم الساحقة كانوا و لازالوا رعاة ماشية وجمال. هذا التجانس يتضح في التقارب الشديد بين اللهجات المختلفة للغة الصومالية وذلك بعكس شعوب أخرى في المنطقة. ويمكن أن يعزى تشتتهم وعدم وجود كيان لهذه الأمة لكونهم رعاة رحل، وعادة فإن الرعاة الرحل أينما وجدوا ألا يكونوا كيانات سياسية بعكس المجتمعات الزراعية. و يملك الصومال أكثر من 60% من إبل العالم.

ومعروف أن الشعب الصومالي ليس شعبا عربيا، ولكن طموحات سياد برى وطمعه في الدولارات النفطية جعله ينضم إلى جامعة الدول العربية عام 1974 أي بعد 14 عاما من استقلال الصومال (أو بالأحرى الاتحاد بين الصومال البريطاني و الإيطالي).

و جدير بالذكر أن انضمام الصومال إلى الجامعة العربية عاد عليها ببعض النفع كذلك بعض المكاسب الوقتية أو المحدودة مثل المزرعة ومعمل قصب السكر الذي بناه الكويتيون بمبلغ 80 مليون دولار في جنوب الصومال، وقد شاهدت شخصيا تفكيكه من قبل تجار الحرب المحليين عام 1992 في قسمايو الذين باعوه لاحقاً بمليون دولار كمخلفات معدنية لتجار الخردة، و تم شحنه كاملاً إلى ميناء مومباسا في كينيا.

و كان هناك مصفاة نفط في مقديشو بنيت من قبل العراق، لكنها ومنذ عام 1988 وهي متوقفة عن العمل وتهالكت مع الزمن. و أما مصر فقد أرسلت البعثة الأزهرية و التي ضمت حوالي 400 مدرساً، ثم وصل عدد كبير من المنظمات و المؤسسات من دول الخليج و هذه بدورها أدخلت الحجاب أولا، ثم النقاب، ثم المصائب كلها.

علما بأن سياد برى جاء إلى الحكم وأنهى الحكم المدني عام 1969 وفي نفس فترة وصول الديكتاتور "عيدي أمين" إلى أوغندا و "العقيد القذافي" إلى ليبيا و حزب البعث إلى العراق. كما حدث الانقلاب في السودان وتغيرات "تسلطية" كثيرة في المنطقة ككل، ويبدو أن الصراع بين الدول الكبرى أخذ يلقي بدوره تبعاته علي المنطقة.

فبعد انقلاب عام 1969 و مجيء الدكتاتور برى إلى الحكم، انقلبت الأمور رأسا على عقب في تلك الجمهورية الفتية، وركب برى موجة الحرب الباردة وتوجه إلى الإتحاد السوفيتي طلبا للسلاح و الخبراء العسكريين، بينما استمر الأمريكان في مساعدة الإمبراطور هيلاسي لاسي وتاليه منغستو هيلا مريام الذي وصل للحكم في إثيوبيا عام 1974.

ومن ناحيته ركب هذا الدكتاتور الجديد في أديس أبابا هو الآخر موجة الحرب الباردة و تحالف مع الإتحاد السوفيتي ومن ثم احتد الأمر بين الدكتاتوريين الجارين، و نشبت حرب "أوغادينا" الشهيرة بين عامي 1975 -1977، واحتلت القوات الصومالية أوغادينا، ولكن وصول 50 ألف كوبي إلى إثيوبيا قلب الأمور رأسا على عقب، و ترك سياد برى أوغادينا بعد فشله فشلا ذريعا فأحكم قبضته أكثر على الشعب في الداخل(تماما مثلما فعل صدام حسين عقب مغامرته الفاشلة في الكويت).

ونتيجة للحرب، تغيرت المعادلة: فقد اصطف برى مع الأمريكان أعدائه السابقين، بينما اصطف منغستو مع المعسكر الاشتراكي، و استمرت الأمور في التدهور من السيء إلى الأسوأ، وفى عام 1982 احتد الصراع بين الشمال (الصومال البريطاني سابقا و عاصمته هرجيسا) و الجنوب (الصومال الإيطالي) و دمرت طائرات سياد بري كافة مدن الشمال، و فر عشرات الآلاف منهم إلى إثيوبيا و اليمن.

و استمرت الحروب القبلية المميتة تنخر بجسم الصومال حتى يناير 1991 حتى احتل الجنرال عيديد عاصمة مقديشو و هرب سياد برى و قبيلته و تركوا مقديشو (لتمر بما مرت به بغداد بعد سقوط صدام). و أقف عند هذا المنعطف حيث أتذكر جيدا و ذلك في أوائل عام 1989 حيث عين في ذلك الوقت وزيرا للزراعة جديد، وتصادف وجود مكتبي إلى جوار مكتبه في وزارة الزراعة بمقديشو و كان شابا تدل ملامحه على الذكاء، وذات يوم في جلسة صفاء معه بمكتبه (وقد كان من شمال الصومال)، سألته لماذا لا يجلس الصوماليون مع بعضهم البعض ليحلوا مشاكلهم، فقال لي ما لم أتوقعه وهو أن عائلته في السويد منذ فترة وهو لا يهتم بالذي سوف يجري. فقد كان يعنى ما نقول في العراق "نارهم تأكل حطبهم".

الصومال و أمريكا:مرارة لها تاريخ

بعد هروب برى تدهور الوضع في الصومال إلى درجة كبيرة و انتشرت المجاعات في بلد فيه نهريين دائمين وثروة حيوانية تقدر ب50 مليون رأس وأراضى زراعية خصبة و ساحل طوله حوالي مليون ميل يطل على المحيط الهندي و الذي يعتبر من أغنى مياه الأرض بالثروة السمكية، مع كل هذا أصيب الشعب الذي لا يتعدى 6 ملايين نسمة بالمجاعة ومات عشرات الآلاف (وأنا شاهد على ذلك).

فالمساعدات كانت آنذاك مقتصرة على بعض المنظمات الغير حكومية الأوروبية و شيء يسير من الأمم المتحدة. و أستمر الحال على ذلك وبعد نجاح كلينتون في نوفمبر 1992 بالانتخابات الأمريكية و فجأة و بعد شهر واحد من نجاح كلينتون، قرر بوش الأب إرسال 32 ألف جندي إلى الصومال واحتلت ميناء مقديشو (كنت حاضرا في الإنزال) و حضر آلاف الصوماليين لتسليم سلاحهم و لكن الأمريكان رفضوا بحجة أنهم جاءوا للمساعدة في توزيع الغذاء و ليس لنزع السلاح. يا للهول 32 ألف جندي لتوزيع الغذاء!

و بعد خمسة أشهر من الإنزال الأمريكي أي في عهد كلينتون في مايو/آيار 1993، سحب غالبية الجيش الأمريكي و بقى قسم قليل سلمت قيادتها للأمم المتحدة ولكن بشرط أن يكون ممثل الأمم المتحدة هو الأدميرال جوناثان هاو و ليس عصمت الكتاني الذي كان يكرهه عيديد لسبب لا أعرفه. ولكن جريدة (بلديق) أي جريدة الجنرال عيديد قد نعتته وقتها بأنه كردى وكأنه عيب أن تكون كرديا و مازالت احتفظ بهذه الأعداد من تلك الجريدة وعلى ما يبدو أن الأمريكان كانوا وراء هذا الموضوع. وتوطدت علاقتي بالجنرال هاو وكان صادقا للغاية عند النقاش في كثير من الأمور.

و في الثالث من أكتوبر/تشرين أول، 1993 قتل عيديد 18 جنديا أمريكيا، ونتيجة لذلك انسحبت أمريكا من المنطقة و تلتها الأمم المتحدة و باب التشابه هنا أن الجمهوريين قرروا إرسال قوات إلى الصومال بعد شهر من فوز الديمقراطيين والذين رفضوا الفكرة من قبل.

وفى تلك الفترة العصيبة جلبت أمريكا إحدى ساحراتها إلى مقديشو لحل المشكلة ألا و هي ابريل جلاسبى (يا سبحان الله،التاريخ يعيد نفسه ولا يوجد جديد تحت الشمس) وبما أنني كنت ممثلا لمنظمة الأغذية و الزراعة في الصومال وكان دي مستورة (ممثل الأمم المتحدة في العراق حاليا) ممثل منظمة اليونيسيف وكنا نحضر الاجتماعات الدورية في مكتب ممثل الأمين العام و كانت ابريل جلاسبى تحضر معنا تلك الاجتماعات،كنت أتمنى آنذاك أن أسألها عما كان يقال عن إعطائها الضوء الأخضر لصدام كي يغزو الكويت، ولكن المهنية كانت تتغلب على فضولي.

في أثناء فترة سياد برى، بنا الأمريكان سفارة كبيرة جدا على أرض واسعة و أحيطت بجدار ضخم حيث أستعمل فيما بعد كمعسكر كبير للقوات الأمريكية و التركية و عدد من المنظمات الأممية (وكانت شبيهة بالمنطقة الخضراء حاليا في بغداد). وكممثل للفاو، فإن مكتبي و مخازن المكتب و الحرس الخاص كانوا في جراج كبير مجاور للسفارة البريطانية السابقة في وسط مقديشو و بقيت فيها سنوات الحرب الأولى (وبسبب موقعي بوسط المدينة كنت على علم بالحوادث التي تقع حتى قبل علم قوات التحالف بها).

لقد ترك الأمريكيون المرارة في فم الصوماليين مرات عديدة، ففي عام 1944 رفضوا فكرة الصومال الموحد وساعدوا سياد برى بكل قوة أثناء حكمه التسلطي، ثم انزلوا القوات بعد سقوط برى ولكن لم يجمعوا السلاح، و أخيرا ساعدوا إثيوبيا على احتلال الصومال وأخيرا فشل التدخل الإثيوبي..هذا هو مجمل الدور الأمريكي في هذا البلد.

زار بوش الأب الصومال العام 1992 يوم الكريسماس – عيد الميلاد- والتقيت به وقتها، وكنت كغيري لدينا تصور وآمال حول جدوى التدخل الأمريكي ونراه أمرا جريئا، ولكن خاب أملنا وكثيرا ما أقارن تصوراتنا وقتها بالحال الذي آل له هذا الشعب المسكين، تماما مثلما كنا نظن بالحرب الأمريكية على العراق وخاب ظننا أيضا.

القرصنة و الصومال:ليست وليدة اليوم

لقد استهجن العالم عمليات القرصنة الأخيرة في مياه المحيط الهندي المقابلة للحدود الصومالية، و كثيرا ما يذكر في الأخبار أن القراصنة هم رجال البحرية الصومالية السابقين، وكما أرى على شاشات التلفاز فإن القراصنة أكثرهم شباب بينما انتهت البحرية الصومالية تماما منذ عقدين من الزمان، وبالتالي لا يمكن أن يكون هؤلاء من البحرية القديمة.

إن القرصنة و السرقة و النهب في المياه الإقليمية أو أعالي البحار المواجهة للصومال لم تبدأ منذ سنة أو سنتين كما يكرر البعض، بل إنها بدأت منذ سقوط نظام سياد برى؛ ففي ظل الفراغ السياسي في الصومال و سقوط الحكومة تُركت المياه الإقليمية لهذا البلد عرضة لأكبر عملية نهب من قبل بواخر (معامل) صيد الأسماك في دول كثيرة، منهما بواخر اليابانيين و الكوريين و عدد من الدول العربية و دول أخرى.

وكنت شخصيا مسئولا عن الزراعة و الأسماك في ذلك البلد بعد سقوط سياد برى و إلى انسحاب الأمم المتحدة أواخر عام 1995.كنت أحلق فوق المياه الإقليمية الصومالية و أرى عشرات السفن تسرق موارد الشعب الصومالي في وضح النهار وفى مناطق قريبة جدا من الشواطئ الصومالية و لم يردعهم أحد، لا دول الجوار ولا الجامعة العربية و لا حتى الأمم المتحدة، بل وتم إبلاغي شخصيا أن أغض الطرف عن هذا الموضوع، أي أن أقوات وموارد الصوماليين كانت تُسرق في صمت لمدة عشرين سنة.

وهذا بخلاف البيئة والثروة السمكية التي تأثرت- وبالتبعية يتأثر الانسان بها- بسبب تفريغ العديد من السفن من جنسيات مختلفة للنفايات على سواحل الصومال..هذا ما كان يحدث لعشرين عاماً وكنت وغيري نراه مرأى العين.


جمهورية أرض الصومال (شمال البلاد)

كما ذكرت سابقا فإن الصومال البريطاني (أرض الصومال)و الصومال الإيطالي قد اتحدا في عام 1960 في دولة واحدة هي الصومال الحالية بعد استقلالها، و هنا جدير بالذكر أن الحالة الاجتماعية و الثقافية في الصومال البريطاني كان أفضل مما كان عليه الحال في الصومال الإيطالي، وقد كان الصوماليين الشماليين وراء عملية الإتحاد إلا أنه على ما يبدو قد دخلوا في شراكة غير متكافئة و التي انتهت بجريمة تدمير الشمال عام 1982.

و عند سقوط برى، سنحت الفرصة للشماليين في تنظيم أنفسهم و تشكيل (أرض الصومال)، وقد حظوت بحضور عملية رفع علم أرض الصومال في هرجيسا في عام 1991، و بالفعل هناك فرق شاسع بين ما هو موجود في الشمال و الجنوب. إذ أن العاصمة هرجيسا كانت مهجورة منذ عام 1982 و حتى 1991. و أتذكر جيدا عند تحليقي فوق تلك المدينة الكئيبة أنني لم أرى سقفا أو بابا أو شباكا ...نعم ؛فالمدينة كانت مدمرة تماما.

و قد عاد بعض اللاجئين من إثيوبيا و كانوا يعيشون بين حوائط بيوتهم السابقة بلا أبواب تحميها، وكمثال فقط لتصوير الحالة المفجعة التي وصلت لها المدينة: حدث أن كانت الضباع تختطف المواليد الصغار من أمهاتهم ليلا (يوجد عدد كبير من الضباع في وسط المدينة والتي كان ينتشر فيها بشكل كثيف قوات سياد برى).

وأما "هرجيسا" فهي الآن منطقة عامرة ومتطورة وأمينة في تلك البقعة من العالم، ومع الأسف لم يعترف بها رسميا من قبل أي دولة، رغم أنها كانت منطقة ذات سيادة حتى العام 1960 واختاروا وقتها الاتحاد طوعا مع الجنوب.

الصومال إلى أين؟

تركت الصومال يوم الحادي والثلاثين من يوليو/ تموز العام 1996 وهو نفس يوم وفاة الجنرال عيديد.. وأفكر بكثير من الأسى في حال الصومال الآن، وغالب ظني أن الحل الذي قد يختصر المعاناة الحالية لأهل هذا البلد هو فيدرالية تضم أقسامه الخمسة ويترك للشعب الصومالي الخيار في الاتحاد لاحقاً..

ولم لا؟ فالصومال ينطبق عليه المثل القائل "ما ياخدك إلى المر هو الأمر" وإذا تعذر ذلك في الوقت الآني فعلي الأقل يتم الاعتراف بما هو واقع حالياً، وهو دولة "أرض الصومال" فهي الأكثر استقرارا من بقية المناطق، وربما يقلل هذا الاعتراف من الجهد المبذول عند محاولة حل مشكلة بقية مناطق الصومال.

ويعتقد بعض الكتاب أن الدولة المركزية كافية لاستقرار أي بلد، لكن التاريخ أثبت أن ذلك ليس ضامنا بمفرده لتحقيق السلم والأمن الداخلي، كما أن الأولى والأقرب للإنصاف أن تعترف الدول بخيارات الأقاليم في شكل علاقتها معا ولا تفرض تصوراتها عليها.

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.