الخطوط الفاصلة...! د. عبد المنعم سعيد الوضوح هو أكثر ما تحتاجه الحياة السياسية المصرية, والغموض والالتباس والتأرجح بين المعاني تقف بين العقبات التي تمنع التطور الصحي للنظام السياسي المصري, ومن الجائز أن التقدم الذي حققته حكومة الدكتور أحمد نظيف خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة طبقا لما جاء في العديد من التقارير الدولية وآخرها تقرير التنافسية الدولية الصادر عن المنتدي الاقتصادي الدولي كان راجعا الي أن بوصلة التغيير ظلت واضحة في اتجاهها نحو اقامة نظام السوق الاقتصادية القائمة علي التنافس بين مستهلكين ومنتجين, وربما كان هذا الوضوح داعيا في بعض الأحيان الي شدة الهجوم الاعلامي والسياسي عندما تكون الأهداف واضحة والتصويت ممكنا علي وزراء وقضايا, ولكنه مع ذلك كان أدعي لتصحيح المسار عندما يهدد الاحتكار المنافسة, وعندما تظهر قطاعات شعبية فقيرة ليس بوسعها انتظار نتائج عملية هي بطبيعتها طويلة المدي. ولكن ما كان ممكنا في مجال الاقتصاد كان دوما صعبا في دنيا السياسة, فالكل يريد العدالة, والجميع يرغب في الحرية, والجميع يقف الي جانب الفقراء ومحدودي الدخل, ولا يوجد من له حماس قليل تجاه كل ما يخص الأمن القومي, وكل من هب ودب له في الديمقراطية نصيب وحظ, وعندما يصير الكل في واحد فإن النتيجة الطبيعية هي أن يفتش الجميع في ضمائر الجميع, وينقسم المجتمع لدي أفراد وأحزاب الي أخيار وأشرار, وأنبياء وخونة, ولا يحل هذه المعضلة سوي وضوح الرؤي من خلال برامج محددة ليس حول المبادئ, وانما حول السياسات في جوانبها التشريعية والقانونية, وجوانبها المالية والاقتصادية, وموقعها من التطور العام للمجتمع. ولحسن الحظ أن بعضا من هذا في طريقه الي الحدوث في مصر, فالحزب الوطني الديمقراطي الذي يعقد مؤتمره العام هذه الأيام, يضيف وثائق جديدة الي وثائق سابقة, وكلها تعكس تطورا معيبا يقوم علي اختلاف السرعات بين التقدم الاقتصادي والتطور السياسي, وفي المقابل فإن جماعة الاخوان المسلمين المحظورة والمشروعة معا خرجت علي المجتمع بعد تردد طويل ببرنامج حزبي علي قدر من التفصيل لسياسات وبرامج كلها تقوم علي هدم قواعد الدولة المصرية الحديثة منذ قيامها في عام1922, وكما توارد في الصحف فإن أحزاب الوفد والتجمع والناصري والجبهة الديمقراطية يعدون معا وثيقة للخلاص المصري لا يعرف أحد بعد عما سوف تحتويه, وحتي يحدث ذلك, وحتي يتم قياس مدي التأثير علي المجتمع المصري, فإن وضوحا يأخذ شكل خطوط فاصلة قد بات يقينيا بين الحزب الوطني الديمقراطي من جانب, والجماعة من جانب آخر, وتتيح للمجتمع القدرة علي الاختيار حتي يظهر اختيار ثالث في يوم من الأيام. وأول الخطوط الفاصلة يقع بين الدولة المدنية من جانب, والدولة الدينية من جانب آخر, ومهما كانت التحفظات الموجودة علي النظام السياسي المصري الراهن ومدي ديمقراطيته, فإنه في النهاية يضع سلطة اصدار القوانين في يد ممثلي الشعب حيث تجري عملية التشريع بين بشر يجري عليهم ما يجري علي البشر من انسانية الصواب والخطأ, وبشرية المراجعة والتقويم, وعلي الجانب الآخر, ومهما كانت البهلوانيات الفكرية والمناورات السياسية, فإن برنامج الاخوان يقوم علي دولة دينية يتحكم فيها مجلس ديني للفتوي وليس للتشريع في كل الأمور قاطعة الثبوت والدلالة التي يقررها هكذا رجال الدين أيضا, وهنا فإن الدولة ليس لها وظائف خدمة مصالح الشعب المتغيرة, وانما للدولة وظائف دينية لا يحددها أبناء الوطن وحدهم, وانما في قرارات الحرب والسلام, تحددها أمة إسلامية مترامية الأطراف ممتدة من المحيط الأطلنطي حتي المحيط الباسفيكي. الخط الفاصل الثاني ينطلق فورا من صورة الدولة, فعندما تكون مدنية فإن فضيلة الاختيار تصبح ممكنة, فالإنسان وعقله وتعليمه وثقافته تعطيه القدرة علي التمييز والتقدير والاختيار بين بدائل واختيارات, سواء في السوق السياسية أو الاقتصادية, أما في الدولة الدينية فإن القضية لا تكون اختيارا شخصيا للناس, وانما هي اختيارات بين مذاهب الفقهاء قد تضمحل عندما ينجح واحد منهم في التغلب علي الآخرين بالسيف أو بالذهب, واذا كانت هناك شكوي مشروعة من تقاعس الحزب الوطني الديمقراطي في رفع الحالة الاستثنائية عن مصر فإن عليه أن ينظر مليا في برنامج الجماعة لكي يجد فيها من جانب عملية قسرية عقلية وبدنية لإعادة قولبة وتشكيل الانسان المصري وغسيل عقله, ومن جانب آخر عملية قاسية للهيمنة الاقتصادية من خلال دولة ذات بيروقراطية هائلة وتحكم في عمليات الانتاج والاستهلاك والتوزيع. والخط الفاصل الثالث يأتي منطقيا, فحينما تكون الدولة مدنية, واختيارات المواطنين لها قيمة ونصيب, فإن دعم الحياة ورفع مستوي المعيشة والتقدم العام للمجتمع ماديا ومعنويا يستدعي فورا العمل من أجل السلام, وهنا فإن الحزب الوطني الديمقراطي لا يعني بالسلام تجاهل ضرورات الأمن القومي القادمة من تحديات خارجية, ولكنه يتعامل معها كما تتعامل معها الدول المدنية في العالم من خلال تقوية عناصر القوة الذاتية, والعمل علي زيادة الحلفاء وتقليل الخصوم والأعداء, واقامة توازن القوي الذي يكفي الردع ويدفع الخصوم للتعاون, وعلي الجانب الآخر فإن جماعة الاخوان لا تطرح سياسة لحماية الأمن القومي, وانما سياسة للصراع والحرب مع الخارج وفي المقدمة منه إسرائيل والولاياتالمتحدة والغرب في عمومه, هنا فإن هدف سياسات الأمن القومي لحزب الاخوان المنتظر لا يكون هدفها بعد استبعاد الإرهاب حماية المصالح الوطنية وانما وضعها في نطاق مصالح الأمة العربية والإسلامية غير المتفق عليها, مما يفتح الباب لصراعات جديدة للبحث عن اتفاق يقوم علي سحب الاعتراف من إسرائيل حيث تصبح الكيان الصهيوني, وبذل كل الجهود للوصول الي حل جذري وعادل للقضية الفلسطينية, يضمن لجميع الفلسطينيين داخل وخارج الأرض المحتلة حقهم في إقامة دولتهم وعاصمتها القدس علي كامل تراب فلسطين التاريخية, هذا الوعد يعني مباشرة إزالة دولة إسرائيل من الوجود, وهو ما يعني فورا استئناف الصراع والحرب بين مصر والدولة العبرية في ظل توازنات قوي غير متكافئة يعترف بها برنامج الجماعة, وتكتمل هذه الصورة عندما لا يكون العداء فقط لإسرائيل, وانما معها المشروعات والخطط الأمريكية المتتالية للشرق الأوسط, وفوقها اعتبار تمركز القوات الأجنبية في مناطق الخليج والبحر الأحمر( حيث توجد أساطيل لكل الدول الغربية تقريبا) والعراق( حيث توجد قوات تحالف لأكثر من عشرين دولة منها اليابان واستراليا والمملكة المتحدة وايطاليا) ولبنان( حيث توجد قوات دولية), وكل ذلك يمثل تهديدا مباشرا للأمن القومي المصري وانتهاكا للأمن العربي, وتهديدا لأمن دول الجوار الإسلامي( أي إيران لأن تركيا عضو في حلف الأطلنطي). الخطوط هنا واضحة وفاصلة, ولكنها أيضا مترابطة في برنامج متكامل, فالدولة المدنية ليست منفصلة عن اقتصاد السوق والبحث عن السلام ودعم الحياة, والدولة الدينية ليست بعيدة عن الدولة التداخلية التعبوية الساعية للمواجهة والحصول علي الشهادة, وبشكل ما فإن كليهما يشكل منظومة فكرية وروحية وأخلاقية متكاملة قد تبدو مقلقة في بعض من جوانبها لأنها بالغة الحدية والوضوح ويمكنها أن تؤدي الي استقطاب غير محمود في المجتمع, وربما كان ذلك داعيا لدي بعضنا للبحث عن طريق ثالث, وتوليفة أو تركيبة أخري من الفكر السياسي, أو الاقتصاد المختلط, ولكن حتي هذه اللحظة فإن هذا الطريق لايزال في عالم الغيب, ودرجة تأثيره في دعم الوضوح أو تأكيد الخلط والغموض لايزال في نطاق المجهول, وما يهمنا في هذه اللحظة هو استمرار الوضوح والخطوط الفاصلة بين الأفكار والرؤي ووضعها في الإطار العالمي لتقدم الأمم والدول, فلا نحن أول الدول ولا آخرها التي تبحث عن طريق طال البحث عنه للخروج من ظلمات التخلف الي نور التقدم, ولا نحن أول الأمم ولا آخرها التي طال بها التردد والوقوف دائما في تقاطعات طرق. وبصراحة كاملة, فإنه لا يوجد في العصر الحديث دولة واحدة متقدمة تقوم علي أسس دينية, ومن بين الدول الخمسين الأولي في تقرير التنافسية العالمي, أو كل التقارير المماثلة الأخري التي تفحص التقدم في عالمنا, لا توجد دولة واحدة تقوم علي السيطرة والهيمنة الكاملة للدولة علي الاقتصاد أو معظمه وانما تقوم علي اقتصاد السوق, فالدول العشر الأولي في التنافسية هي الولاياتالمتحدة وسويسرا والدنمارك والسويد وألمانيا وفنلندا وسنغافورة واليابان والمملكة المتحدة وهولندا, ومن بين الدول الصاعدة في العالم في آسيا أو أوروبا الشرقية أو أمريكا الجنوبية, لا توجد دولة واحدة استطاعت التقدم بينما تضع نفسها في موضع صراعات تاريخية ودينية, والحال الغالب علي هذه الدول جميعها هو تجنب الصراعات كلما أمكن, والبحث عن السلام كلما كان متاحا, والطرق علي كل الأبواب من أجل التعاون والترابط في تكتلات اقليمية أو عالمية, وفي حالتنا فإنه يستحيل أن تأخذ مصر شعبا وحكومة موقفا يزايد علي مواقف الشعب الفلسطيني نفسه الذي تشير كل استطلاعات الرأي العام الموثوق بها الي أن غالبيته تقبل حل الدولتين القائم علي الاعتراف المتبادل بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي, وفلسطين كدولة للشعب الفلسطيني بعد قيام دولة فلسطينية والتواصل لحل دائم لكل مشكلات الصراع, تلك هي الحدود, وهذه هي الفواصل!!. عن صحيفة الاهرام المصرية 5/11/2007