الأهرام 12/11/2007 كانت الدهشة غالبة علي كل المشاهدين للبرنامج التليفزيوني الشهير حينما راح المذيع الأشهر يعنف الفنان جابر البلتاجي علي قيامه بالغناء في المعبد اليهودي الذي تم تجديده أثناء احتفال الجماعة اليهودية المصرية, أو من تبقي منها, بالمناسبة. وكان مصدر التعنيف أن صاحبنا قام بالغناء في وجود السفير الإسرائيلي في القاهرة, مما صار تجسيدا لجريمة التطبيع مع العدو الصهيوني. لم يذهب صاحبنا إلي إسرائيل, ولم يغن في احتفال يخص الدولة العبرية, ولكنه كان مغنيا للسلام علي أرض مصر, وفي مكان مصري, ولجماعة مصرية, وبأغنية مصرية من كلمات الشاعر الخالد صلاح جاهين. ومع ذلك جلس الرجل علي خازوق الاستجواب والتحقيق وهو لا يعرف ما هي التهمة, ولا ما هي الجريمة, فهو لم يكن قد وضع قائمة المدعوين, ولم يكن يهمه في قليل أو كثير من كان منهم حاضرا ومن كان غائبا, كل ما كان يهمه هو مشاركة جماعة مصرية صغيرة للغاية احتفالها بالحفاظ علي واحدة من الآثار المصرية التي لو دلت علي شيء فهو علي عراقة مصر التي عرفت الواحد القهار قبل أن يعرفه أحد في العالم, وعرفت الدنيا والآخرة قبل أن تصل إلي بشر آخرين وفي قصرها الملكي عرف النبي موسي-عليه السلام- خطواته الأولي, وإليها جاء المسيح عيسي-عليه السلام- طفلا مع العذراء مريم بحثا عن الحماية, ومنها تزوج النبي محمد- صلي الله عليه وسلم آخر الأنبياء والمرسلين. كان الاحتفال احتفالا بمصر بحلقاتها الحضارية والدينية المختلفة والمتنوعة, لم تعقد فيه اتفاقيات ولا معاهدات, ولم تجر فيه مفاوضات ولا مساومات, ومع ذلك أمسك المذيع بسوطه لاهبا ظهر فنان علي تطبيع لم يحدث ولا كان له أصل أو فصل. ولم تمض ساعات كثيرة حتي كان المشهد يتكرر مرة أخري لأن فيلما للمخرج يسري نصر الله عرض أخيرا في إسرائيل وهو فيلم يدين الدولة العبرية وجرائمها ويعلي من شأن القضية الفلسطينية وشهدائها. ولكن السماح بعرض الفيلم في إسرائيل كان تطبيعا هو الآخر يستحق مخرجه المساءلة والاتهام. ولم تكن قصة الغناء والفيلم لا أول القصص ولا آخرها في حالة جماعة منا نصبت نفسها حكما فاصلا علي التطبيع شجبا وإدانة. وبالطبع لم يكلف أحد نفسه مرة واحدة التأمل في نتائج هذه الحالة, وعما إذا كان وقف عرض الأفلام أو الغناء في مناسبات مصرية قد أدي إلي تحرير الأراضي الفلسطينية, أم أنها بقيت علي حالها محتلة تماما كما هي منذ عام1948 أو من عام1967!. فالحقيقة الناصعة هي أن جماعة منا صارت عاشقة للقضية الفلسطينية التي بات لها فصول متعددة من حروب وأزمات, وكما كان الحال في كل قضية فإن لها فصولا وأبوابا; وقد بات فصل' التطبيع' واحدا منها لا يعرف أحد له بداية أو نهاية فقد صار جزءا من المناخ العام يطير في جنبات النقابات المهنية وتتقاذفه أقدام المذيعين والمذيعات في البرامج الإذاعية والتليفزيونية. ووسط ذلك كله يسقط الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة, ولا يبقي منها إلا الموقف من التطبيع الذي حل الشرف فيه مكان فلسطين كلها, بل وحتي مكان مصر كلها التي وقعت اتفاق سلام مع إسرائيل منذ عام.1979 هنا فإن ما صدر عن الحزب الوطني الديمقراطي من وثيقة' الأمن القومي' خلال مؤتمره العام التاسع يبدو معبرا عن شجاعة حقيقية لأن الوثيقة من ناحية لم تتمسك بالسلام فقط, بل أعلنت عن النية المصرية للعمل علي مد هذا السلام حتي يحل القضية الفلسطينية ويحصل الشعب الفلسطيني علي حقوقه المشروعة. ومن ناحية أخري فإن الورقة التي تحدثت عن' الأمن القومي المصري في عالم متغير' كانت تضع السلام شرطا أساسيا لاستمرار التنمية المصرية كلها ليس فقط بمعدلات نمو عالية, وإنما أيضا بتحقيق التكامل بين زيادة الإنتاجية والتنافسية المصرية والتوزيع العادل للعائد. ومثل ذلك لا يحدث في بلد مرتجف, ولا في بلد غير مستقر, ولا حتي في بلد يعيش في بيئة سياسية ملتهبة, وإنما في بلد يعيش وسط استقرار إقليمي. هنا فإن وحدة التحليل هي مصر الدولة التي يمكن قيادتها وتعبئة مواردها وترقية قدراتها, وليس عالما عربيا تربطنا به روابط كثيرة, ولكن ليس من بينها القدرة علي اتخاذ القرار المشترك أو تعبئة الموارد التي ينفرد بها كل قطر علي حدة, وباختصار لا ينطبق عليه ما كان ذائعا عن غير ذي حق' الأمن القومي العربي'. وفي مثل هذا المنهج فإن المصلحة الوطنية المصرية هي الجوهر والفيصل, وإزاءها فإن' التطبيع' لا يزيد علي كونه وسيلة من وسائل تحقيقها, وتطبيقه فيه تشجيع علي تعظيم المصالح, وحجبه أو تبريده أو تجميده يحمل درجات متنوعة من العقاب. ومن يراجع تاريخ العلاقات المصرية_ الإسرائيلية سوف يجدها حلقات من الدفء والبرودة حسب ما تحقق في كل مرحلة من مصالح مصرية, ومن بينها تحقيق تقدم في عملية السلام. وبين توقيع اتفاقية السلام في عام1979 وحتي عام1982 كانت العلاقات دافئة حتي قامت إسرائيل بغزو لبنان, وتقاعست في تحرير طابا, فلم يمض وقت طويل حتي قام ما عرف بالسلام البارد, واستمر الحال كذلك حتي عادت طابا, ومن بعدها جاءت عملية السلام الفلسطينية_ الإسرائيلية بعد اتفاق أسلو فعادت الحرارة مرة أخري. ولكن الحرارة خبت مع فشل مفاوضات كامب دافيد ونشوب الانتفاضة الفلسطينية حتي انسحبت إسرائيل من غزة ونزعت عنها المستوطنات فعادت الدماء مرة أخري إلي عروق العلاقة مع الجانب الآخر من الحدود. كل هذه التفاعلات صعودا أو هبوطا ارتبطت ليس فقط بالقضية الفلسطينية وإنما بالمصالح المصرية التي تخص ما يقرب من ثمانين مليونا من المصريين الذين يتحرقون شوقا لكي يخرجوا من الفقر والحاجة وانتظار المعونات الدولية. وأثناء انعقاد مؤتمر الحزب الوطني الديمقراطي الذي حضره قرابة ستة آلاف ممثلين لكل أرجاء مصر لم تكن هناك قضية مثارة إلا وكانت مرتبطة بالتنمية بشكل أو آخر. وكان الكل يعلم أنه لا تنمية بدون سلام واستقرار إقليمي, ولا تنمية مع مغامرات سياسية وإقليمية تحت اسم الدور الإقليمي يقود إلي كوارث يدفع ثمنها أجيال متتابعة, ولا تنمية ولا تقدم مع عنتريات لغوية يكون للكلمات فيها جرس وصوت ولكن ليس فيها معني أو فاعلية. ومن حق الناس أن ينتقدوا ما يشاءون الحزب الوطني الديمقراطي, وبالنسبة لي شخصيا فقد كان لي تحفظاتي وانتقاداتي علي المسار الديمقراطي للحزب, ومدي استعداده للتخلص من أوضاع استثنائية طال انتظار التخلص منها; وكل ذلك أمر والحفاظ علي مصر وشعبها أمر آخر. فالقضية الأساسية بالنسبة للحزب تدور حول خلق المناخ الإقليمي المناسب للتنمية المصرية من خلال العمل علي حل المشكلات العربية المزمنة في فلسطين والعراق ولبنان والسودان بطريقة تضمن المصالح العربية من جانب, وتبقي علي علاقات مثمرة مع العالم والدول المتقدمة فيه بوجه خاص. وعندما يكون70% من تجارتنا الخارجية مع أوروبا الولاياتالمتحدة, وأكثر من هذه النسبة بكثير تأتي التكنولوجيا والسلاح والعلم والاتصالات فإن الحديث عن عداء أو خصام مع هؤلاء بعيد تماما عن الحكمة. ومن حق بعضنا بالطبع أن يطالبوا بالتحالف مع إيران وسوريا وجماعة خالد مشعل في دمشق وحزب الله في لبنان من أجل تمريغ أنف أمريكا وإسرائيل في التراب, ولكن هؤلاء عليهم أن يقولوا لنا كيف سوف يكون حال المصالح المصرية, والشعب المصري في هذه الحالة وإذا قبلنا بشد الأحزمة علي البطون, والتضحية من أجل المصالح العربية والإسلامية العليا فهل ستكون النتيجة تحرير الجولان وعودة مزارع شبعا وقيام الدولة الفلسطينية علي أرض فلسطين التاريخية؟ فالحقيقة هي أنه لا أحد يعدنا بشيء إلا بنصر قادم لا نعرف فيه أرضا أو دولة يقوم أساسا علي قدرة إيذاء الآخرين, ولكن بعد ذلك لا يوجد شيء, وها هي حماس قد انفردت بغزة ولكنها لا تستطيع إدارة الكهرباء فيها لأنها قادمة من إسرائيل; وعلي المعابر ينتظر قادة الاستقلال التاريخي- ليس عن إسرائيل ولكن عن السلطة الفلسطينية-120 شاحنة تأتي بالمؤن والغذاء كل يوم لا يعرف أحد عما إذا كانت سوف تهل كما القمر أم سيكون لها كسوف. وهنا تحديدا يقف الدرس التاريخي صريحا لا يعرف الالتواء, أن التنمية التي تنتج الكهرباء والغذاء وتكف اليد عن المد من أجل المعونات الدولية هو الاستقلال وهو المصلحة القومية. القضية إذن التي ينبغي لها أن تبقي في كل الأذهان هي مصر ولا أحد غيرها, ليس لأن مصر تتخلي عن أشقائها العرب, ولكن لأن مصر لا ينبغي أن تجعل مصيرها رهنا بأشقائها العرب لأن الأشقاء العرب يكرهون إسرائيل أكثر مما يحبون فلسطين, ويكرهون أمريكا بأكثر مما يحبون العراق, ويكرهون العالم بأكثر مما يحبون مصر خاصة لو كانت مصر في حاجة اقتصادية, وأبناؤها يبحثون عن كفيل. هل أصبح معني الأمن القومي المصري واضحا تماما بأنه لا يوجد أمن دون تنمية, ولا توجد تنمية دون سلام, ولا يوجد سلام دون استقرار إقليمي, ولا يوجد استقرار إقليمي ما لم تكن مصر دولة نامية وفاعله جدا وليس هزلا, وحقا وليس قولا. وإذا كان ذلك كذلك فلماذا لا يتعلم التليفزيون المصري بعضا منه ؟!. المزيد فى أقلام و آراء