الاهرام19/11/07 للرئيس السادات-رحمه الله- في عنق مصر والمصريين أكثر من دين: أولها أنه كان الرجل الذي استرد لمصر كرامتها مع حرب أكتوبر المجيدة بعد هزيمة قاسية مرغت سمعتها في الأوحال بعد حرب يونيو في عهد الرئيس الخالد جمال عبد الناصر عام.1967 ثانيها: أنه الرجل الذي استرد سيناء كاملة غير منقوصة إلي السيادة المصرية بعد احتلال إسرائيل لها مرتين خلال العقدين السابقين في عهد سلفه العظيم. ثالثها:, أنه الرجل الذي استن طريقا آخر لإدارة الصراع العربي_ الإسرائيلي يكفل تقليص الإمبراطورية الإسرائيلية ولا يوسعها, وينتهز الفرصة ولا يضيعها, وفي الحقيقة فإنه يخلقها خلقا ويضعها في خدمة المصالح القومية المصرية. رابعها : أنه كان الرجل الذي عرف قدر مصر فلم يجعلها مطية لجماعة من المزايدين والمغامرين العرب الذين فضلوا الاحتلال علي التحرير, والتخلف علي التقدم, والضعف علي التنمية; ومن ثم حررها وجعلها قادرة علي اتخاذ القرارات الصعبة التي تخص مستقبلها. خامسها : أنه رغم كل ما حققه من إنجازات تاريخية فقد ظل غير مفهوم من كثير من المصريين, بل ومشكوكا في منهجه ومساره, وكان ذلك كافيا لاغتياله معنويا قبل أن يكون ماديا. لقد كتبت ونشرت كثيرا عن الرئيس السادات وكان آخرها مقالي علي هذه الصفحة' تحية إلي روح السادات العظيم' بمناسبة مرور ربع قرن علي تحرير سيناء. وبالنسبة لي كانت المسألة بالنسبة للماضي بسيطة ومنطقية, فقد كان هناك منهج الرئيس المصري إزاء استعادة الأراضي المحتلة والذي بدأ بزيارته التاريخية للقدس; ومنهج الرئيس حافظ الأسد والذي كان سائدا في العالم العربي قبل وبعد زيارة القدس. وبعد ثلاثة عقود من التاريخ والعمل السياسي والدبلوماسي والعسكري والغزوات والانتفاضات, لم تعد سيناء محررة فقط بل سارت الزهرة المتوجة لمصر النامية الحديثة المزدهرة, ولم تبق الجولان محتلة فقط بل إنها أصبحت أكبر مزرعة استيطانية للدولة العبرية في المنطقة بينما لا توجد لا خطة سلام ولا خطة حرب تسعي إلي تحريرها. وبالنسبة للحاضر فقد كانت المسألة كلها لا تقل بساطة, فمن حق المصريين الشكوي كثيرا من سوء أحوالهم, ولكن ما كان عليهم إلا تخيل سيناريو فشل الرئيس السادات في تحرير سيناء, فساعتها لم تكن مصر, أو قيادتها, بتلك الدولة التي تترك أراضيها المقدسة تحت الاحتلال الإسرائيلي وهي التي لم تقبل طول تاريخها باحتلال, ومن المؤكد ساعتها أن مصر سوف تخوض حربا أو حربين من أجل استعادة ما ضاع. وتعالوا ساعتها نتخيل آثار تلك الحالة من المعركة المستمرة, والحرب المستعرة, علي ثمانين مليونا من المصريين يطلبون العلم والعمل فلا يجدونه, ولا يعلو لديهم صوت علي صوت القتال, فيصبح الصمت دائما فضيلة, ولا يبقي لديهم بطون يمكن شد الأحزمة عليها من أجل أهداف مقدسة ونبيلة. وبالنسبة للمستقبل فإن مصر المحررة تماما من الاحتلال الأجنبي, ولمدة أكثر من ربع قرن الآن, هي وحدها التي تستطيع التحدث عن انطلاقة جديدة من أجل التنمية والديمقراطية, وفي هذه الحالة تستطيع أن تقدم تجربتها لمن يريد الاستفادة من العرب عامة ومن الفلسطينيين خاصة. ولكن مثل هذه الحالة من البساطة في التفكير ليست دوما شائعة لدي كثير من المثقفين وأصحاب الطول في الطبقة الفكرية والسياسية المصرية. ودلالة ذلك كان يوم الأربعاء الماضي عندما خطب الرئيس حسني مبارك في مجلس الشعب المصري مبشرا بمزيد من التقدم الاقتصادي, ومؤكدا أن السلام هو حاضنة هذا التقدم ولذلك فإن مصر سوف تبذل كل مساعيها من أجل نجاح اجتماع أنابوليس القادم, ومحذرا في نفس الوقت من المساس بأمن مصر القومي لمن لا يعرف أو يسيء الفهم. وبينما جري ذلك في الصباح شهد المساء برنامجا تليفزيونيا شهيرا يناقش ما كتبته هنا في الأسبوع الماضي حول ما جري في ذلك البرنامج عن وقائع محددة تخص فنانا شارك في الاحتفاء بتجديد معبد يهودي مصري, ومخرجا سينمائيا أخرج فيلما يرفع من شأن القضية الفلسطينية وتم عرضه في إسرائيل. وبالطبع فإن من حق الجميع إبداء آرائهم فيما كتبت, وعرض ما يشاءون من آراء; ولكن يبقي لافتا للنظر أن البرنامج علي لسان المذيع الشهير وأحد المتحدثين أكدا منهجا يستحق المناقشة والتحليل وقوامه أن الدولة من حقها أن تفعل ما تريد فيما يخص قضايا الأمن القومي, والحرب والسلام, ولكن' الشعب' يفعل ما يريد بحيث يمنع ويعاقب ويشهر ويحرض. وفي قضية أخري ربما لم يكن الأمر يستحق كثيرا من المناقشة, فكما هو معروف فإنه لله في خلقه شئون, وفي الديمقراطية مجال متسع لكل الآراء ووجهات النظر. ولكن في هذه القضية علي وجه التحديد لم تكن المسألة اختلافا في الآراء وإنما كانت نزعا للشرعية عن الدولة العربية في العموم, والدولة المصرية علي وجه الخصوص. فبعد أن تم وصف الدولة بأنها' الحكام العرب' الذين يفعلون كما يفعلون, فإن مثال الشعب صار السيد حسن نصر الله في لبنان وإسرائيل, بمعني أن ما كان حول التطبيع واستنكاره صار فورا حقا للأفراد والشعب والأحزاب أن تخرج علي الدولة حروبا وصراعات. وكان مدهشا أن تلك القسمة بين الحكومات والشعوب بدت طبيعية للغاية, ولم تثر أبدا الحاجة لسؤال عما جري للبنان بعدها وهي حاضرة بحرب أهلية ماثلة للعيون, وبنية أساسية مدمرة وموجعة, واستشهاد أكثر من ألف من اللبنانيين, واحتلال للجنوب اللبناني الذي كان محررا قبل القرار المنفرد لحزب الله بخوض حرب لم يكن لبقية اللبنانيين فيها رأي ولا مشورة. وبدا ذلك عاديا للغاية في تليفزيون الدولة المصرية حيث للحكومات ضروراتها, وللشعوب اختياراتها, ولكل طرف في السياسة القومية مذاهب; ولكن المسألة لم تكن كذلك في البرنامج حيث اعتبر' التطبيع'' خيانة' لا توجد فيها خيارات ولا وجهة نظر, بينما كان نزع الشرعية عن الدولة العربية, والمصرية, خاصة, نوعا من البطولات القومية التي تنازع فيها جماعات مسلحة حق الدولة في الاحتكار الشرعي لحمل السلاح, واتخاذ قرارات الحرب والسلام للدولة وشعبها. ومن كان يظن أن نظرية' الفوضي الخلاقة' من إبداعات السيدة كوندوليزا رايس, فإنه سوف يكتشف بعد مشاهدة برنامجنا أن النظرية كانت اختراعا مصريا خالصا. وبالتأكيد كان ذلك قلبا لكل ما تعرفه دول العالم من تقاليد الوطنية, ولكن حتي تكتمل الحبكة الدرامية والسياسية ويرتفع موضوع غناء فنان في معبد مصري إلي عنان العلاقات الدولية إذا بالمذيع الأشهر, والذي أصر طوال الحلقة علي حياده التام حتي وهو يطبق كل قواعد الانحياز ويتبني نزع الشرعية عن الدولة المصرية, علي التأكيد ثلاث مرات علي أن اليهود يسيطرون علي العالم. لم يقل الرجل أن اليهود أقلية لها نفوذ كبير, أو أن لليهود قدرة تنظيمية علي التأثير في العلاقات الدولية, ولكنه قالها بحكمة وتأكيد ما يبدو كما لو كان بديهيا, انه لا توجد شاردة ولا واردة في العالم إلا واليهود يتحكمون فيها. وهكذا وبقدرة إذاعية و'حيادية' ماهرة ألغي صاحبنا وبجرة قلم وجود المؤسسات والأحزاب والانتخابات والإعلام والجامعات والمجالس النيابية ومراكز البحوث والتقدم العلمي والتعليمي في شرق العالم وغربه, ومن المكسيك حتي اليابان, ووضعه كله تحت السيطرة اليهودية. وللحق فإن وجهة النظر هذه ليست جديدة بالمرة, فقد تبنتها تيارات غربية مغرقة في محافظتها, وكانت الفكرة مهيمنة علي النظريات النازية والفاشية في العالم. أما بالنسبة لكل الأحرار في العالم فإنهم عرفوا التمييز بين سلوكيات إسرائيل العدوانية والوحشية واليهود كبشر واليهودية كدين. وفي النهاية فإن الغالبية الساحقة من اليهود لم تذهب إلي إسرائيل وبقيت في البلاد التي تعيش فيها, ويوجد منهم من يؤيد إسرائيل في كل الأوقات, ومنهم يعترض عليها أيضا في كل الأوقات, وبين هذا وذاك توجد أطياف متعددة بينما هناك جماعات غير قليلة لا يهمها الموضوع في كثير أو قليل. ومع ذلك فإن من حق المذيع الشهير أن يتبني ما يراه من أفكار, ولا بأس أيضا من أن يذيعها علي الناس, ولكن ما ليس من حقه أن يذيعها بينما يتحدث عن الحياد بعد أن صارت القضية هي العلاقة مع اليهود المسيطرين علي العالم, وليس الحديث عن أنجع السبل لاستعادة الحقوق الفلسطينية. وهكذا بعد ثلاثة عقود من زيارة الرئيس السادات إلي القدس وتحرير الأراضي المصرية المحتلة واستعادة كرامتنا المفقودة يبدو أن جماعة منا لا تزال مصرة علي نفس التفكير الذي أضاع فلسطينوسيناء والجولان ومزارع شبعا من البداية حيث لم تعد القضية هي استعادة أرض مفقودة وإنما تسجيل الموقف باحتلالها, ولا صار الموضوع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإنما التباهي بقدرته علي الصمود, ولا أصبحت المسألة تطويع دولة إسرائيلية عنيفة لصالح مستقبل المنطقة وإنما مد العداء معها إلي بقية العالم. وهنا نفهم تحديدا لماذا تم اغتيال السادات لأن بقاءه كان سيعني تحريرا للعقل العربي من قوالب أيدلوجية جامدة أخذت الأمة كلها إلي مسالك التهلكة, ومن الملفت أن من اغتالوه فعليا هم وحدهم الذين قاموا بمراجعات فكرية; أما من يقومون بهذا الاغتيال يوميا فلم يستجمعوا الشجاعة بعد للقيام بهذه الخطوة!.