المتابع للإعلام المصري، سيقف على أنه لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس، ولم يسمر بمكة سامر.
الخطاب الإعلامي قد تغير، وانتقل الإعلام الرسمي، من مرحلة تشويه الثورة إلى الاعتراف بها، على نحو يؤكد أن مفجر الثورة المصرية هم السادة:
عبد الله كمال، ومحمد علي إبراهيم (علي هنا اسم وليس حرف جر)، وعبد المنعم سعيد، وخالد إمام، وخيري رمضان، وتامر بن أبيه، وعبد اللطيف المناوي.
وبات لافتاً أن هذه الوجوه، التي تنتمي إلى العهد البائد، لا تزال في مواقعها، وهي من أزلام نظام مبارك وابنه جمال، ويمثل استمرارهم خطراً على الثورة، وهو أمر لا يمكن لمثلي أن يتقبله بحسن نية وسلامة طوية، ونحن نسمع عن 'الثورة المضادة'.
لقد انتظرت عقب نجاح الثورة المجيدة أن يتم جلب عدد كاف من الخيل، والبغال، والحمير، ليوضع عليها قيادات تلفزيون الريادة الإعلامية بالمقلوب، بسبب تطاولهم على واحدة من أهم الثورات التي عرفتها مصر.
من خلال رسالتهم التي استهدفت التشويه والتشهير، لكن الثورة نجحت، وفوجئنا بالقوم في مواقعهم، وبعد لف ودوران أقيل انس الفقي وقدم للمحاكمة مع أسامة الشيخ رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون.
وبقي عبد اللطيف المناوي رئيس قطاع الأخبار، وهو المسئول عن كل ما جرى، إذ كان يقوم بدور وزير الإعلام التنفيذي، وكانت مهمته هي الترويج لجمال مبارك.
هذا فضلاً عن أن مقدمي البرامج الذين تمددوا في المشهد طيلة السنوات الماضية، في برنامج 'مصر النهارده'، و'صباح الخير يا مصر' ظلوا في مواقعهم، وتحولوا الآن إلى متحدثين باسم الثورة، على نحو كاشف عن انتهازية، غير مسبوقة.
ليظل كل في مكانه، فالذين شوهوا ثورتنا ظلوا في مواقعهم، والذين كانوا في ميدان التحرير، لا يزالون قيد التهميش، ويبدو أنه أمر سيستمر إلى حين يوضع حسني مبارك رهن الإقامة الجبرية، هو ونجله، والسيدة حرمه.
ويمنع اتصالهم بالناس، وأيضاً إلى أن يتم تفكيك جهاز مباحث أمن الدولة، الذي يقود 'الثورة المضادة'، وهؤلاء الإعلاميون يمثلون الخلايا النائمة لها.
قبل أيام هاتفني صديق من خارج المحروسة، وعرض علي فكرة مشروع إعلامي، وطلب مني ان انتظره إلى حين العودة خلال أسبوع، على ألا أتسرع، واطلب العلى في مكان آخر.
وقد ظن لطيبته ان العروض تنهال على ام رأسي هذه الأيام كما الأرز، بعد فك الحصار وسجن حبيب العادلي، وتنحية صفوت الشريف، وأنني أسهر الليالي أفاضل بين هذه العروض، وأفكر وأقدر مع أن كل شيء في مكانه.
فالمحاصرون لا يزالون كما هم، وقد فاز باللذات كل مغامر، فلا يزال أسامة سرايا رئيساً لتحرير 'الأهرام'، ولا يزال ممتاز القط صاحب المقال التاريخي عن 'طشة الملوخية' رئيساً لتحرير 'أخبار اليوم'، ولا يزال عبد اللطيف المناوي يتصرف في تلفزيون البلاد تصرف المالك في ما يملك.
في ميدان التحرير
منذ اليوم الأول للثورة كانت المذيعة هالة فهمي تقف في ميدان التحرير، تندد بحملة التلفزيون على الثورة، وتتصدي لمحاولات التشهير التي يقودها قادته، لدرجة أننا شاهدنا عبره من يقول ان حفلات للجنس الجماعي تقام في الميدان.
وعندما وقعت 'موقعة الجمل'، وقام بلطجية الحزب الحاكم باقتحام ميدان التحرير بالسيوف والجنازير والخيل والحمير، قامت هالة برفع لافتة تتهم وزير الإعلام بالتورط في الجريمة، فلم يحقق معها أحد، وربما انتظر الوزير ان تفشل الثورة فيقوم بذبحها على النُصب.
لكن الثورة نجحت، ولا تزال هالة فهمي مضطهدة، في حين أن تامر ابن أبيه، وخيري رمضان، وعبد اللطيف المناوي، يرفلون في النعيم المقيم، قبل وبعد الثورة.
على قناة ' أون تي في'، استضاف الإعلامي المرموق يسري فوده، وريم ماجد الدكتور محمد البرادعي، الذي اندهش لاستمرار أتباع النظام البائد يحتلون المواقع الإعلامية الرسمية، وطالب بإقصائهم، فلا يقبل منطقاً ان يظلوا في مواقعهم وكأن الثورة لم تقم.
مع أن استمرارهم جريمة في حقها، بل وأكبر إساءة لشهداء الثورة، وبعضهم راح ضحية الشحن الذي كان يقوم به إعلام السلطة.
من خلال الترويج بأن الذين يرابطون في ميدان التحرير هم عملاء لجهات أجنبية، توزع عليهم اليوروات، ووجبات الكنتاكي، فكان قتلهم بدم بارد.
لقد جرت محاولات لحماية أنس الفقي وتابعه أسامة الشيخ، لكن في النهاية كان القرار هو التضحية بهما، لأنه ليس من الطبيعي أن يستمرا في موقعيهما، مع ان أداء التلفزيون كان سبباً في حصاره في الأيام الأخيرة من الثورة، على نحو منع دخول المذيعين او خروجهم، في يومي الخميس، والجمعة الأخيرة في حياة مبارك.
ونتج عن هذا عدم قدرة التلفزيون على نقل وقائع الصلاة، فتم بث صلاة مسجلة، تصادف أن الخطبة كانت خلالها منصبة على شعيرة الحج.
كان المفروض أن يرحل عبد اللطيف المناوي، لكنه بقي، وقام العاملون بطرده من المبنى، لكنه دخل، ومؤخراً قام الإعلاميون بالاعتصام، وطالبوا برحيله، فاستدعى تجربة الأخ العقيد معمر القذافي في مواجهة الثورة الليبية، وهي نفس تجربة الزعامة التاريخية للأخ علي عبد الله صالح في اليمن، وهما يحاكيان تجربة مبارك.
عندما استدعى رجاله ليهتفوا باسمه، ويطالبوه بالاستمرار من اجل مزيد من العطاء.. انه طمع الدنيا، فلم يشبعوا عطاءً على مدى ثلاثين عاما.
القذافي استدعى أنصاره في طرابلس، وخطب فيهم خطبة عصماء، وقال لهم اسهروا، وغنوا وارقصوا، وأعلن انه صخرة صماء، وقال انه لن يرحل.
والأخ صالح دفع أنصاره للسيطرة على ميدان التحرير في اليمن، وباعتبار أن من سبق أكل النبق، ربما لأنه سيطر عليه ما سيطر على نظام مبارك، الذي اعتبر ان ميدان التحرير هو رمز السيادة، وانه لو سقط في يد الثوار، فقد سقط معه النظام.
وهو ما استقر في وجداننا فلم نبال بأطنان القنابل الفاسدة التي قذفونا بها، وأصررنا على دخول الميدان، وبعد ساعات من الكر والفر، إذ بأمن مبارك يولي الدبر، ويطلق سيقانه للريح.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فقد ذكرت في الأسبوع الماضي، كيف أننا أخذنا بالنصائح التونسية فاستعملنا البصل، والمياه الغازية، والخل، لكن من دون جدوى.
وقد وقفت على السر بعد تحقيقات النيابة، إذ تبين أن القنابل التي قذفونا بها كانت منتهية الصلاحية، واعتبرت النظام التونسي كان كريماً مع شعبه فقد كان القذف بقنابل لا تزال في الضمان وسارية المفعول ، لكن كاتبا تونسيا قال لي ان القنابل المستخدمة ضدهم كانت منتهية الصلاحية أيضاً.
سلمية.. سلمية
في الحالة المصرية كان استدعاء من يهتفون بحياة مبارك مفضوحاً، فقد كانوا موظفين في اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وفي وزارة البترول، وعمالا لدي بعض رجال الأعمال، وبلطجية قيل لهم لكي تتمكنوا من دخول ميدان التحرير، عليكم ان تهتفوا كما يهتف المتظاهرون: سلمية.. سلمية. فجاءوا إلى الميدان وهم يهتفون: سلمية.. سلمية، بينما يشهرون الأسلحة البيضاء، في مشهد أضحك الثكالى.
لكن في الحالة الليبية، فقد كان واضحاً أن الذين احتشدوا ليهتفوا بحياة الأخ العقيد هم الذين استفادوا من عهده، وبالتركيز الفضائي على المظاهرات المؤيدة، بدت كما لو كانت خاصية ليبية غير مسبوقة.
وقد قلد عبد اللطيف المناوي الأخ العقيد معمر القذافي، فبحسب ما قرأت في احدى الصحف، أن عدداً من الإعلاميين ردوا على الاعتصام بأن وقفوا أمام مكتب المناوي وأعلنوا رفضهم لأن يرحل، وهو نوع من الحب العذري، ليس له وجود سوى في كتب التراث.
المناوي من حقه أن يحصل بما فعل على لقب الأخ العقيد، لكن يظل ما جرى يحتاج إلى شرح وتفسير، إذا سلمنا ان الجماهير خرجت مدفوعة بالوفاء والأمل.
فالذين اعتصموا وطالبوا برحيل المناوي، كانت حجتهم المعلنة انه عمل على تشويه الثورة، والتشهير بالثوار على مدى سبعة عشر يوماً، ولا يجوز أن يظل يوماً في موقعه، إلا إذا كان الهدف هو تكريمه على فعلته، والا إذا كان من حقه أن يستفيد في كل العصور.
لاسيما إذا علمنا انه ليس مسؤولاً عن أداء قطاع الأخبار فقط، ولكنه مسؤول كذلك عن أداء قناة النيل، بعد ان نجح في ما فشل فيه كل رؤساء القطاع السابقين، الذين حلموا بضم القناة إلى القطاع، وهو أمر لم يتحقق إلا له باعتباره كان من رجال النظام السابق!.
هذا فضلاً عن أن عدداً من الذين اعتصموا مطالبين برحيل صاحبنا، فعلوا هذا لأنهم من الذين حل عليهم غضبه، وجرى تهميشهم، وتقريب غيرهم والإغداق عليهم بالرواتب الضخمة، فالتلفزيون المصري يدار وفق قاعدة الخيار والفقوس.
ويبقي السؤال، وما هو يا ترى السر وراء قيام رهط من العاملين في المبنى بالتظاهر والمطالبة ببقاء المطلوب رحيله؟.
لا أقتنع كثيراً بفكرة الحب العذري، وليس هذا موضوعنا، فكما أطل القذافي من فوق بناية مرتفعة وخاطب الجماهير المحتشدة وقال انه لن يرحل، فقد خرج المناوي وطمأن القلوب الملتاعة، والحناجر الملتهبة بالهتاف، وقال أيضاً انه لن يرحل.
لا اعرف من أين جاء بكل هذه الثقة، ولا أعرف كيف يمكن للمناوي ان يكون رمز العهد البائد، وصوت الثورة في وقت واحد، لكن ما اعرفه جيداً أن الذين خرجوا يهتفون بحياة حسني مبارك، وقالوا انه (أبونا يا جماعة).. دعوه إلى آخر مدته.. حرام عليكم.. اذكروا له الضربة الجوية..
التي من الإلحاح عليها تمنينا أن يكون قد ضربنا نحن بالضربة الجوية وحكم إسرائيل.. هؤلاء الذين شاركوا في المظاهرات المؤيدة للرئيس خرجوا يوم أن تنحى ليحتفلوا برحيله.
لا يمكننا الحديث عن نجاح الثورة، ما دام أزلام نظام مبارك يسيطرون على المشهد الإعلامي، ومن عبد المنعم سعيد، إلى تامر ابن أبيه، ومن لميس الحديدي إلى محمد علي إبراهيم (لاحظ أن علي هنا اسم وليس حرف جر)!