بدا التلفزيون المصري في تعاطيه مع الأحداث في مصر، 'على قديمه'، وكعبد كل على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير.. تشاهده هذه الأيام فتظن أن من يديره هو أنس الفقي في زمن الرئيس المخلوع، وكأن شيئاً لم يتغير! كل ما حولنا يذكرنا بخالد الذكر الرئيس السابق، فالأداء متشابه إلى درجة التطابق، ولا يمثل أداء التلفزيون خروجاً على المنظومة، ولا بأس، فالبأس الشديد ألا نعلم أن النظام الحالي هو امتداد للنظام السابق، وليس تعبيراً عن الثورة بأي حال من الأحوال. وزير الإعلام الجديد ليس مديناً للثورة بشيء، فقد كتب عندما تمت الدعوة لها يقول انه لا يريد لمصر أن تكون مثل تونس، فهو ليس من الثوار، والثوار لا يحكمون في مصر، فقد كذبوا كذبة فصدقوها وصدقها غيرهم وطالبوه باستحقاق على دور لم يقوموا به، فهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. لا أحد حمى الثورة المصرية، سوى الشعب المصري، وفي يوم جمعة الغضب وعندما هربت الشرطة من الميدان ودخلنا ميدان التحرير وبعد نصف ساعة من ذلك فوجئنا بسيل منهمر من القنابل المسيلة للدموع، وفي يوم موقعة الجمل، فان الخيل والبغال والحمير والشبيحة دخلوا الميدان في حضور الدبابات التي أفسحت لهم الطريق، وهناك تفاصيل كثيرة في هذا السياق ليس مجالها الآن، لكن أكاذيب كثيرة نشرت في هذا السياق، حتى بعد شهادة المشير في قضية قتل الثوار عندما قال ان مبارك لم يصدر لهم تعليمات بضرب الثوار، وهي شهادة وان كان البعض نظر إليها على أنها جاءت لتبرئ الرئيس المخلوع، فإنها كانت كاشفة على كذب الزيف الذي تم ترديده عن رفض المشير تعليمات صدرت له، ومن عجب أنها ظلت تنشر حتى بعد الشهادة، وكوفئ من ردد هذه الأكاذيب! كان لدي الجميع استعداد للسير في هذا الاتجاه، لتمر المرحلة الانتقالية على خير، لكن تأكد أن هذه المرحلة لن تمر الا اذا حصل المجلس العسكري الحاكم على نصيبه في الكعكة باعتباره من حمى الثورة، وهذا النصيب ليس قطعة فيها او تمثيلاً في الحكم ولكن ان تكون إرادته فوق إرادة الشعب، وان يكون هو مصدر السلطات من خلال الوثيقة، التي اشتهرت إعلاميا باسم 'وثيقة السلمي' نسبة للدكتور علي السلمي نائب رئيس الوزراء لشؤون التنمية السياسية والديمقراطية، وكان من ينسبونها له يكذبون، فالسلمي اضعف من ان ينتج وثيقة على هذا النحو. الوثيقة تجعل من المجلس العسكري هو الحاكم الفعلي للبلاد، وأن رئيس الدولة ليس أكثر من خيال مآتة، ومعه السلطة التشريعية، وهو ينوب عن الشعب في حضوره وغيابه باعتبار المجلس هو السلطة الاعلى في البلاد، فكانت الدعوة إلى المليونية، وخرج السلمي عبر وسائل الإعلام يقول ان الإخوان المسلمين الذي يرفضون الوثيقة الآن سبق لهم ان وقعوا بالموافقة عليها وذكر اسم من وافق وهو الرجل الثاني في حزب 'الحرية والعدالة' الذراع السياسي للجماعة المذكورة، وهالني أنهم صمتوا ولم ينفوا وبعد ذلك تأكدت أن السكوت هو علامة الرضا. تصرف الطامع الجماعة بهدف الوصول إلى قرار بفتح باب الترشيح وإجراء الانتخابات النيابية قامت بطمأنة المجلس العسكري تماماً، فهي لا تريد أغلبية، فقط تريد اقل من 30 في المئة في قول وأكثر من ذلك قليلاً في قول آخر، وهي لا تمانع في ان يكون للجيش وضع مميز باعتباره حامي الثورة، لكن عندما فتح باب الترشيح تصرفت تصرف الطامع في السلطة كلها وأعلنت رفضها للوثيقة وكأنها لم تؤيدها من قبل. كانت الدعوة لمليونية الجمعة قبل الماضي بهدف رفض الوثيقة، وترك الإخوان الميدان في نهاية اليوم، ولم يبق فيه إلا من وجد به قبل المليونية وهم 250 فرداً بحسب بيان لوزير الداخلية، من أسر شهداء الثورة الذين لم يتلقوا التعويضات المقررة، والمصابين الذين لم يتم علاجهم على نفقة الدولة ، وجاءت قوات امن جبارة واعتدت عليهم بوقاحة، على نحو ذكرنا بمرحلة ما قبل 25 يناير، وكان هذا مجرد إظهار للعين الحمراء والهدف هو العودة إلى الحكم بالحديد والنار، لكن لم تكد تمر سوى ساعة حتي كان ميدان التحرير كامل العدد، فقد جاء الناس إلى الميدان لنصرة هؤلاء الثكالى. ولم تسكت قوات الأمن فقد واصلت رسالتها في الاعتداء على من في الميدان ووصل الحال إلى حد الاعتداء على المصلين وإجبارهم على مغادرته وضربهم بقنابل ليست من النوعية التي ألقوها علينا في يوم جمعة الغضب ويوم الغضب، عندما التقى الجمعان. وعاد التلفزيون يعمل على قديمه، ليس التلفزيون الرسمي وحده، ولكن الفضائيات الاخرى، فقد كان كل ما حولنا يذكرنا بالأيام الأولى الثورة. كانت مهمة التلفزيون في السابق هي شيطنة الثورة، وتشويه الثوار، الذين يعملون وفق أجندة أجنبية، وأنهم يشربون الخمور في الميدان، ويتقاضى كل متظاهر خمسين دولاراً يومياً، ووجبة كنتاكي.. 'وآه من كنتاكي.. ثم اه من كنتاكي'، وانبعث أشقاها ليقول انه شاهد بأم عينيه من يمارسون الفواحش في الميدان، مع أن ما فيه كانوا أشرف وأطهر أبناء مصر. وجيء بالفنانة عفاف شعيب فقطعت قلوبنا بحالة ابن شقيقتها الطفل الذي لا يزال 'في اللفة' وهو يطلب منها 'بيتزا وريش' فلا تستطيع ان تلبي نداءه، فمحلات ' البيتزا' ومطاعم الكباب مغلقة بسبب الثورة. الابقاء على المناوي ومع هذا الاحتشاد التلفزيوني فقد غادر مبارك، وسقط من أداروا الحملة ضد الثوار، ولأن القيادة التي تسلمت السلطة لم تكن منحازة للثورة فقد أبقت على عبد اللطيف المناوي رئيس قطاع الأخبار بالتلفزيون، وذهب البعض ليؤسس لهذا الإصرار بان المذكور رفض إذاعة بيان من مبارك بإقالة المشير، فلدينا فيلق من مؤلفي أفلام الكارتون، وصحافيين لديهم القدرة بحول الله ان ينفذوا إلى البيت الأبيض، ليحصلوا على تفاصيل الحوار الذي دار بين أوباما ونفسه في 'التواليت'. لقد تبين ان العلاقة بين المشير ومبارك كانت كالسمن على العسل، والإصرار على بقاء عبد اللطيف المناوي في موقعه هو لأن القوم لا يرونه قد فعل كبيرة، وإلى الآن فان قيادات المؤسسات الصحافية القومية المملوكة للشعب المصري يقوم عليها من كانت لهم علاقة وثيقة بالنظام البائد، وهناك اثنان من أعضاء لجنة السياسات بالحزب الحاكم برئاسة جمال مبارك لا يزالون في مواقعهم القيادية. وكل خيارات أهل الحكم تؤكد أنهم امتداد للنظام البائد، لكن ضغط الثوار الذي أجبرهم على تقديم مبارك ونجليه وأركان حكمه للمحاكمة هو الذي حملهم على التخلي عن عبد اللطيف المناوي. وفي هذه عاد التلفزيون إلى سابق عصره، ومعه فضائيات الجوار، من قنوات خاصة يقوم الفلول على أمرها، وكان الهدف واضحاً وهو تشويه الثورة والتشهير بالثوار، وتصويرهم على أنهم مدفوعون بتعليمات من جهات أجنبية، مع ان الثوار كانوا رد فعل على من يسعون إلى إثارة الفوضى في البلاد حتى تفتح السجون مرة أخري ويتم تهريب جمال وعلاء مبارك وترك والده في أيد أمينة ومدينة له بالولاء. منذ تنحي مبارك ونحن نطالب بطرد رجال حبيب العادلي وزير الداخلية في حكم مبارك، فلا نسمع إلا لفاً ودوراناً، ولتاً وفتاً، ولم يكن الاعتداء على الثوار قراراً منفرداً فلم تكن أجهزة الأمن التابعة لوزارة الداخلية فقط هي من اعتدت عليهم، ولم تكن وحدها من اعتدت على المصلين، ولم تكن هي من دمرت المستشفي الميداني وضرب المصابين الذين يتلقون العلاج فيه. شيطنة الثورة لقد واصل التلفزيون مسيرته في شيطنة الثورة وحشد الرأي العام ضدها وشارك هذه المرة الإخوان المسلمون الذين وجدوها فرصة للتقرب للمجلس العسكري بالنوافل، ولأنهم يخافون من الهواء العليل اذا تم تعطيل الانتخابات ومنعهم من الحصول على الأغلبية فقد نظروا إلى الحاصل في ميادين النضال ومن التحرير إلى غيره في المحافظات المختلفة على انه بهدف وقف المسيرة الديمقراطية. الإخوان يتدربون هذه الأيام على الحكم، وإذا كان الحكام ينظرون إلى مخالفيهم على انهم مجرد 'قلة مندسة' فقد قال احد قياداتهم هذا الكلام نصاً في مداخلة فضائية، بل واستدعي خطاب إعلام مبارك وأعاد إنتاجه من جديد. فمصر ليست القاهرة والقاهرة ليست ميدان التحرير، وهي نفس النغمة التي كان يرددها اعلام المخلوع.. وبدا تعامل الإخوان مع الميدان بازدواجية عرفوا بها في كل شيء!. فمليونية الجمعة الماضي هي تعبير عن إرادة المصريين جميعاً، لأنهم شاركوا فيها، ومليونية الثلاثاء التي نجحت رغم مقاطعتهم لها، هي لا تعبر عن 80 مليون مصري، فالأغلبية الصامتة مقاطعة، وكل الحكام ينظرون إلى الأغلبية الصامتة على أنها معهم والإخوان يستعدون لمرحلة الحكم. تهكم الإخوان على ميدان التحرير وهم يشاطرون المجلس العسكري الحاكم الأحزان، وهو الميدان الذي حررهم ونقلهم من جماعة محظورة إلى جماعة تطمح في الحكم فلا يحد من طموحها احد، وصاروا من نجوم تلفزيون الدولة وتذكرون أنني كثيرا ما انتقدت التلفزيون لأنه يتحدث عنهم ويهاجمهم دون ان يمنحهم فرصة الدفاع عن أنفسهم باعتبارهم جماعة محظورة لا يجوز لها ان تظهر في تلفزيون شرعي. سبحان من يغير ولا يتغير، لكن السقوط الإعلامي هو الوحيد الثابت في هذه الحملة، فهو ضد الثورة كما كان الإعلام من قبل، مع تغير في النجوم، من قبل كان جهاد عودة ومصطفى علوي والان صار محمد البلتاجي واحمد أبو بركة، والأول بعد ان هاجم الثوار ذهب إلى الميدان فطرد من هناك كما طرد الذين هاجموا الثورة من قبل وجاءوا إلى الميدان عندما أيقنوا ان مبارك راحل لا محالة. وقد شاهدت احد الذين كانوا يتعاملون على أنهم من الثوار على فضائية خاصة وهو يتحدث عن الروائع التي حملها خطاب المشير إلى الأمة، فتذكرت جهاد عودة الذي سكت هذه الأيام. لقد تغير الأبطال ولم يتغير النص ولا ديكور المسرح.