عندما تأتي المصائب من الأصدقاء أحمد المرشد تعيش تركيا أسوأ اختبار لها مع الولاياتالمتحدة والعراق في عهد حكومة رجب طيب أردوغان الجديدة، فهي حقيقة تعيش وكأنها بين فكي الرحى بسبب مقتل 13 جندياً تركياً وبعض المدنيين على أيدي متمردي حزب العمال الكردستاني التركي المحظور، الذين يفرون إلى المناطق الشمالية في العراق، وقرار لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي حول اعتبار ما حدث للأرمن في تركيا في نهاية الحرب العالمية الأولى “إبادة جماعية". فقد أبرز التوتر الحالي بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني الانفصالي، تناقضا في وجهات النظر العراقية ذاتها ازاء الأزمة التي تتشابك فيها خطوط كثيرة أهمها مواقف الحكومات التركية والأمريكية والعراقية. فالأزمة الناشبة بسبب مقتل الجنود الأتراك، أوضحت بجلاء هشاشة الحكومة المركزية في بغداد وضعف موقف واشنطن تجاه أي نزاع يقع فيه العراق مع أحد جيرانه. فعلى المستوى الكردي، استغل التحالف الكردستاني عبر أعضائه في البرلمان العراقي، الأزمة لتوجيه اتهامات عدة إلى حكومة نوري المالكي المركزية بالضعف حيال ما يجري على الحدود الشمالية، وأن هذه الحكومة الضعيفة غير قادرة على ضبط الوضع الأمني على الحدود، والذي هو مسؤولية القوات الأمريكية والحكومة العراقية. ليس هذا فقط، فالحكومة الكردية في الشمال استغلت هذه الأزمة لتوجيه اتهام آخر لحكومة المالكي بسبب الاتفاق الأمني الذي أبرمته الشهر الماضي مع أنقرة من دون استعانة بأعضاء من إقليم كردستان العراق. وعزا السياسيون الأكراد، تحفز الحكومة التركية إلى تصعيد العمل العسكري باتجاه أراضيهم إلى عدم إشراكهم في الوفد الأمني الذي ذهب إلى تركيا لتوقيع الاتفاق، ثم إن الأكراد ذاتهم وفي وقت لاحق وجهوا نداءً إلى الحكومة التركية بالدخول في مفاوضات مباشرة مع حكومة الإقليم الكردستاني كونها صاحبة الشأن والبحث معها في تخفيف التوتر على الحدود بين الطرفين. بيد أن حكومة أنقرة وفي ضوء تعرضها لضغوط أمريكية خاصة بعد قرار لجنة الكونجرس، ليس أمامها سوى رفض أي وساطة أمريكية لتخفيف حدة التوتر على الحدود. وبات من الواضح أن التصعيد الأخير لم يكن ممكنا أن يحدث لولا قرار الكونجرس الأمريكي رغم أنه قرار غير ملزم لإدارة جورج بوش، لأن من المعروف أن القوات التركية اعتادت في الماضي على أن تقدم على التوغل داخل الحدود الشمالية العراقية من دون هذا الصخب الإعلامي، وكذلك شن اجتياحات من وقت لآخر لكيلومترات عديدة داخل هذه الحدود. وربما كانت حكومة أنقرة في غير حاجة بالمرة إلى هذه الأزمة مع أكراد العراق، لأنها تبغي العيش في سلام وعدم دخول في أزمات مباشرة معهم، لا سيما وأن تركيا تعلم علم اليقين مدى الدعم الأمريكي لهم في هذه الفترة، وفي ضوء قرار غير ملزم للكونجرس الأمريكي برغبته في تقسيم العراق، ما يعني نشوء دولة كردية ستؤلب أكراد تركيا على حكومتهم المركزية في أنقرة. إن صدور قرار لجنة الكونجرس الأمريكي المشار إليه، كان بمثابة المحفز لهذه الأزمة وربما استفادت منه أنقرة لإعلان جملة من الإجراءات التحذيرية إلى الولاياتالمتحدة وهي: منع القوات الأمريكية من استخدام قاعدة انجرليك الجوية، وعلينا أن نشير هنا إلى الأحاديث الأمريكية المتتالية عن قرب شن حرب ضد إيران. ومن المؤكد أن هذه القاعدة ستكون محطة مهمة وأساسية لانطلاق المقاتلات الأمريكية نحو المراكز النووية الإيرانية. منع الطائرات الأمريكية عموماً من استخدام المجال التركي ووقف التدريبات المشتركة. ونعلم مدى خطورة هذا الإجراء على الولاياتالمتحدة في ضوء الاعتماد الأمريكي المتنامي على القواعد التركية، لتعزيز جهودها وتواجدها في العراق حيث يوجد أكثر من 160 ألف جندي أمريكي. استغلال أنقرة لهذه الأزمة لمطالبة واشنطن بتكثيف ضغوطها على الاتحاد الأوروبي لقبول تركيا عضواً فيه، وهو المطلب التركي منذ خمسينات القرن الماضي. لقد شكلت تركيا منذ الحرب العالمية الثانية حلقة قوية في سلسلة أحلاف الأمريكيين في المنطقة بوصفها جداراً أمامياً في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق. وارتبطت السياسة التركية بالسياسات الأمريكية في المنطقة بما في ذلك موالاة “إسرائيل" والتنسيق العسكري معها، ولذلك يمكن فهم الدهشة والغضبة لدى الجماهير التركية من هذه البادرة غير المفهومة التي ارتكبها هذا الحليف الأمريكي. أضف إلى ذلك أنها جاءت أثناء مقتل 13 جنديا وأكثر من 20 مدنياً تركيا في هجمات من قبل متمردي حزب العمال الكردستاني. وبينما حذرت الحكومة الأمريكية، الدولة التركية من مطاردة المعتدين إذا دخلوا الأراضي العراقية، وذلك على الرغم من أن حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية حسب الوصف الأمريكي، قام الكونجرس بتوجيه طعنة أخرى لتركيا في الظهر لمحاباة اللوبي الأرمني في الولاياتالمتحدة. لب الأزمة التركية أن أنقرة في عهد أردوغان لا تزال تنظر إلى تحالفها مع أمريكا على أنه ركن ثابت من أركان سياستها الدولية والإقليمية بما في ذلك علاقاتها مع “إسرائيل". ولا يزال التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي أيضا ركنا آخر من أركان الممارسة السياسية الهادئة المعتدلة التي تتجنب التعبئة بمشاعر غير ودية ضد الغرب، ولا تيأس من محاولة الحوار والتفاهم عساها تصل إلى نتيجة. وفي سبيل ذلك لم تتوان عن جمع العشب وتقديمه لثور حقوق الإنسان المقدس والديمقراطية على النسق الغربي لتحسين سجلها في حقوق الإنسان حسب مفهوم الأمريكيين والأوروبيين. من المبكر الافتراض بأن التطورات الأمريكية الأخيرة قد تدفع الأتراك إلى إعادة النظر في سياساتهم بصورة جذرية وتحويل أنظارهم إلى الشرق وإلى الشمال أي إلى روسيا والصين والقارة الآسيوية، ولكن مثل هذه الأفكار قد تبدأ في التوارد، لا سيما إذا توالت الإشارات الأمريكية العدائية تجاه تركيا. وبعيداً عن أزمات تركيا، فإن منطقة جديدة في العراق وهي شماله تعيش فوق برميل بارود، فالحدود مع تركيا على وشك الانفجار، وأرضه مرشحة لتكون ميدان حرب كردية تركية، وفي اللحظة نفسها، تنكأ إحدى لجان الكونجرس الأمريكي جرحاً تركياً أرمنيا قديماً لا ندري لماذا؟! حقا..أنه أول اختبار حقيقي لحكومة أردوغان الجديدة، فماذا عساها تفعل لتلافي هذه الأزمة، لا سيما وأن أحد أطرافها الولاياتالمتحدة أحد أهم حلفاء تركيا. حقا، لا تأتي المصائب إلا من الحلفاء. عن صحيفة الخليج الاماراتية 20/10/2007