اتخذ مجلس الشيوخ الأمريكي في الاسبوع الماضي، قرارا بتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات طائفية، كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب، تجمعها حكومة فدرالية مركزية تشرف على السياستين الخارجية والنفطية، وحصول هذا القانون على موافقة خمسة وسبعين عضوا من أعضاء الحزبين الجمهوري والديموقراطي، يعكس درجة التوافق بينهما على كل ما من شأنه إلحاق الأذى بالمصالح العربية خدمة للمشروع الصهيوني في منطقتنا العربية.
لقد جاء هذا القرار كذريعة لتحقيق هدفين معلنين هما نزع فتيل العنف الطائفي في العراق، ومحاولة التخفيف من الأعباء والضغوط الواقعة على القوات الأمريكية بفعل الأوضاع المتردية في العراق، لكن الهدف غير المعلن منه هو محاولة اخراج فكرة تقسيم العراق إلى حيز التنفيذ، وتحويله إلى كيانات طائفية متناحرة وهزيلة، ترضي رغبة جهات عديدة في مقدمتها الكيان الصهيوني، الذي يطمح منذ عقود من الزمن لتحقيق هذه الهدف الاستراتيجي، لأن قوته الأساسية هي مستمدة فقط من حالة التفكك والشرذمة العربية، أما الجهة الثانية المستفيدة من هذا التقسيم فهي إيران التي تجد مصلحتها في عراق مفكك وهزيل، تابع لها سياسيا، ومذعن لارادتها ويأتمر بأوامرها.
فكرة تقسيم العراق ليست جديدة، بل دخلت حيز التطبيق منذ عدوان دول التحالف على العراق في عام 1990، حينما قسم مجلس الأمم الدولي ''تحت ضغط أمريكي بريطاني'' العراق إلى ثلاث مناطق جنوبية ووسطى وشمالية، بحيث يحضر تحليق الطيران العراقي فوق المنطقتين الشمالية والجنوبية من العراق ، وجميعنا نتذكر جيدا خريطة العراق التي كانت تتناقلها وسائل الإعلام العالمية، المقسمة إلى ثلاثة أجزاء تضللها ثلاثة ألوان، وتحمل في طياتها رمزية التقسيم وإذكاء روح التناحر العرقي والطائفي في العراق.
يصف بريمر حاكم العراق السابق في كتابه المسمى: (عام قضيته في العراق، النضال لبناء غد مرجو) العراق بأنه دولة أنشأها البريطانيون في أعقاب الحرب العالمية الأولى نتيجة لتجميع ثلاث مقاطعات معا كانت تشكل جزءاً من الإمبراطورية العثمانية السابقة، كما يصف شعب العراق بأنه توليفة ذات اختلافات إثنية وطائفية حادة، وهذا التوصيف يعكس توجهات وأمنيات عميقة لديه ولدى والإدارة الأمريكية، في رؤيتهم لعراق مقسم إلى كيانات متعددة، خصوصا وأن بريمر مؤمن بأسلوب فرق تسد وقد أجاد استخدامه في العراق، حينما أشار إلى ذلك بصراحة، إذ ذكر في كتابه حرفيا: (بعد أن اتضح استمرار وجود عدد من القضايا الحساسة، اتفقت أنا وديك جونز على سياسة ''فرق تسد'' في أوساط العراقيين) والجانب الخطير في هذا الموضوع، هو وجود منشطات فعالة تخدم غرض تقسيم العراق، منها نظام المحاصصة الطائفية في توزيع المناصب والمراكز القيادية والمقاعد النيابية، كما أن الدستور العراقي الذي صيغت نصوصه الأساسية في واشنطن ، يغذي نزعة التقسيم ويدعمها، أما الأهم من ذلك فإن غالبية القيادات العراقية الحالية هي ممن تسعى لتنفيذ فكرة التقسيم، كالقيادة الكردية في الشمال وقيادات ما كان يعرف سابقا بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وحزب الدعوة العراقية وحزب الفضيلة، الموالية جميعها لإيران.
صحيح أن قرار مجلس الشيوخ غير ملزم في ظاهره للحكومة الأمريكية للمضي باتجاه التقسيم، لكنه بمثابة ضوء أخضر موجه للساعين من العراقيين نحو التقسيم، مفاده أن سارعوا بإخراج فكرة التقسيم إلى حيز الوجود، فغزو العراق واحتلاله سار بنفس المنهج وبنفس المسار الرمزي الإيحائي، الذي يعقبه التنفيذ حتى لو بعد حين، في مسعى استعماري جديد لمواصلة مشاريع التجزئة في منطقتنا العربية، منذ سايكس بيكو مرورا بحالة السودان الراهنة وصولا للعراق، ولا ندري في أية دولة عربية سيمر قطارها القادم!