الأزمة ظرف استثنائي ينزل بالبشر، أو بممتلكات البشر، فيصيبهم أو يصيبها بالهلاك أو بالعطب، ولذا فهي ظرف غير مرغوب فيه، ولكن يجب مواجهته للوقوف على أسبابه والحد من آثاره وتداعياته على المدى القريب والبعيد، وهنا تتباين ردود الأفعال حيال الأزمة، وفقاً للتركيبة النفسية والعقائدية والفكرية، وبناء على الخبرة العلمية والظروف البيئية، ومن ثم تتفاوت النظرة إلى الأزمة من إنسان لآخر، ومن مجتمع لآخر، ومن دولة لأخرى، تأسيساً على هذه الخلفيات، وبذا فلكلٍ فلسفته الخاصة ورؤيته المستقلة في التعاطي مع أسباب الأزمة أو تداعياتها أو طرق علاجها.
• فمن الناس من ينظر إلى الأزمة على أنها قدر من الله يحمل في باطنه امتحاناً وابتلاءً كي يميز الله الصابرين من اليائسين، أو أنها بلاء يصب على الخلق من جراء ذنوبهم ومعاصيهم، وما على الناس سوى الصبر والاحتساب، أو التوبة والعودة إلى خالقهم ومولاهم.
• ومنهم من ينظر إليها على أنها منعطفات طبيعة في حياة البشر ترتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود الإنسان على الأرض وصراعه من أجل البقاء عليها.
• ومنهم من ينظر إليها على أنها ضرورة من ضرورات الحياة والتجدد ومن ثم فهي منبه ومنشط ومحفز لفطرة البحث عن حل أو حماية، وهى فطرة كامنة تُستثار عند الشعور بالخطر أو الخوف، إلى غير ذلك.
ولما كان لكل حدث سبب، فإن لكل أزمة سبب، وربما مجموعة أسباب تتفاعل مع بعضها البعض بمساعدة عوامل وظروف معينة تكرس لتفجر أزمة أو مجموعة أزمات في أي وقت، وربما تكون هذه الأسباب معلومة أو مجهولة، وربما تكون من صنع الإنسان وتدخلاته الفضولية، وربما لا يكون للإنسان ذنب فيها.
وفى ميدان الأزمة التي تقع بفعل فاعل، تبرز مسئولية الإنسان عنها، ومن ثم يمكن التقاط دلائلها والحيلولة دون وقوعها من خلال مجموعة من الطرق الوقائية، أو معرفة أسبابها والحد من تأثيراتها وتداعياتها من خلال مجموعة من الطرق العلاجية، وفى كل الأحوال يجب على الفكر الإنساني أن يتحرك، ويجب على الجهد الإنساني أن ينطلق، خاصة وأن وقوع الأزمات أو افتعالها من قبل بعض الأطراف أصبح ظاهرة، في ظل هذا الصراع المحموم على الاستحواذ والامتلاك والسيطرة على كافة المستويات الفردية والمجتمعية، بل والدولية كذلك، بعدما تراجعت القيم الإنسانية بشكل ملحوظ، وتقدمت القيم المادية بشكل مخيف. إن لكل أزمة من الأزمات أسباباً تحمل في طياتها دلائل تشير إلى احتمال وقوعها، من هذه الأسباب :
- (1) الطمع والجشع والاحتكار بكافة أشكاله وصوره.
(2) العشوائية والارتجالية في اتخاذ القرارات.
(3) غياب علم الضرورات وفقه الموازنات عند قراءة الواقع.
(4) تحكيم العواطف في قضايا تحتاج إلى العقل والعلم.
(5) إساءة تفسير مواقف الآخرين وقراءتها بشكل شخصي.
(6) تشويه المعلومات المتاحة عن واقعة معينة وتجنب الأمانة في نقلها كما هي.
(7) سوء الإدارة وضعف مستوى التخطيط.
(8) الفردية والانعزالية.
(9) تعارض الأهداف والمصالح على المستوى الفردي والجماعي.
(10) الشائعات والأكاذيب وما ينشأ عنها من بلبلة وتخبط وإثارة.
هذه بعض الأسباب، والتي قد تنتج متفرقة أو مجتمعة أزمة من الأزمات تختلف في حدتها وشراستها باختلاف الظروف والملابسات التي وقعت فيها، ومدى الاستعداد النفسي للتعامل أو التفاعل معها أو التصدي لها ومحاصرة نتائجها بهدف تحجيمها أو تفتيتها أو تحويل مسارها.
وهنا يبرز دور العقلاء والحكماء من أهل الفكر والرأي والحل والعقد، في كيفية قيادة السفينة في يمِّ الأزمات الهائج العاصف نحو شاطئ الاستقرار والسكينة، وجدير بالذكر أن أشير إلى أن التعامل مع الأزمات علم وفن وموهبة، وهى خصال لا تحقق إلا في ندرة من الناس، ولذا يجب أن يُفسح لهم المجال وأن يُوفر لهم قدراً من الهدوء بالتقليل من الثرثرة والهمهمة، لأن الرشد يضيع في ساحات الضجيج والصخب.
ولذلك فإن الصمت الذي يفرضه التفكير والتخطيط لمجابهة الأزمات، ضرورة لا غنى عنها في واقعنا العربي أكثر من أي وقت مضى، بعدما اتسعت رقعة الكلام حتى عزف عن سمعه القاصي والداني، وانحسرت رقعة الأفعال حتى كادت أن تتلاشى، وتحولنا دون أن ندرى إلى ظاهرة صوتية لا أثر لها في ميدان الواقع، فالصمت هو أسلوب المتحضرين، ومنهج الباحثين عن حلول، أما من اتخذ من كل أزمة قاعدة لإطلاق الفتن، وترويج الشائعات، ونثر الشكوك، فهو يصيد بالماء العكر، بل يخلق إلى جوار الأزمة أزمات، بل ربما يصرف الأنظار عن معالجة الأزمة الحقيقة، وتنصرف الجهود نحو دوامة التناحر والاختلاف والبحث عن الذات.
ولدينا في واقع الأمة العربية أمثلة صارخة تجسد هذه المأساة على نحو لا يقبل الجدال، القضية الفلسطينية أزمة مزمنة، بل هي محور كل الأزمات بالمنطقة، لكن يبدو أن الفلسطينيين يحتاجون إلى من يذكرهم بهذا بين الحين والحين، خاصة عندما تنزلق الأفهام والأقدام إلى هوة البحث عن الأوهام، ولقد رأينا كيف ترك الفلسطينيون أنفسهم للأزمات الجانبية والمفتعلة حتى نمت وترعرعت فتحول الاختلاف في الرأي إلى خلاف وعداء، وتحولت الأزمة الحابية، التي كان يمكن التغلب عليها بشيء من الحلم والصبر والروية، إلى مارد عملاق حجب عن الأبصار والبصائر صورة القضية الأساسية، ورأينا كيف ابتلعت دوامة البحث عن الذات كافة الأطراف بلا استثناء، الأمر الذي عمق من كآبة الموقف، وصعب من إمكانية احتوائه وحله، حتى لكأن الفلسطينيون لا يريدون حلاً، ويبدو أنهم سعداء بما آلت إليه الأمور من تدهور وسقوط !!.
ولذلك فليس عجيباً أن تتنامى في واقعنا العربي توافه الأمور حتى تصبح كالجبال ، وتدور من أجلها صراعات دامية، وبعد أن ينهك كل طرف قوى الطرف الآخر، فلربما يكتشف أن الأمر كان من التفاهة بمكان بحيث لا يستحق كل هذا النزال المرير، الذي بدد طاقات وأهدر أوقات، ولكن بعد فوات الأوان. إن العلة يا سادة تكمن في اعتماد العقل العربي حتى الآن على التصورات الفردية أو الذاتية، وربما العاطفية في مواجهة الأزمات والملمات، التي تحتاج بشدة إلى تحكيم العلم والعقل من خلال استخدام فن إدارة الأزمة، واستخدام معايير التنبؤ بها قبل حدوثها، ومحاولة وضع صورة تقديرية لمفرداتها ومدى تأثيرها الكمي والكيفي على حياة الناس بهدف انتقاء أفضل وأنجع البدائل المطروحة للتعامل معها للتقليل من تأثيراتها وتداعياتها على المستويين القريب والبعيد.
وفى هذا السياق لن يجدي أسلوب الصياح والعويل، ولا البكاء و التهويل، ولا إلقاء الاتهامات جزافاً على هذا الطرف أو ذاك، وإنما يجب أن ينصب جل الاهتمام على العلاج والحل، وليس أنفع لعلاج أي أزمة من إزالة أسبابها وبواعثها الجلية والخفية، فما يصلح الآن لمعالجة أزمة ما قد لا يصلح لأزمة أخرى، وما يصلح اليوم قد لا يجدي غداً، والحياة تجارب، و الحياة تنتج في كل لحظة متغيراً جديداً يؤثر على قدر حجمه في التعامل مع الأزمة التي قد تقع في دائرته، كما أن وعى وإدراك القائمين على إدارة الأزمة يمثل محدداً آخر يدلى بدلوه في انتقاء أفضل السبل المتاحة للحل والعلاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أن للأزمات درواً ذا أثر هام في تحريك وتطوير أداء العقل البشرى، فمن أجل التعامل مع أزمة ما فإن العقل يتجه مباشرة إلى البحث والفهم والاستنتاج، وعليه ينتج العقل أفكاراً جديدة قادرة على مواكبة المتغيرات ومواجهة المشكلات، وقد تكون هذه إحدى الأسباب الهامة لفهم السر المكنون وراء خلق المتناقضات في الكون، وبل وفهم العلة الكامنة من وراء خلق البشر على نحو مختلف في الفكر والسلوك والثقافة والأهداف، إذ أن هذا الاختلاف والتناقض تنشأ عنه، بلا ريب، احتكاكات ومناوشات يتولد عنها أزمات تكون مدعاة لإعمال العقل بحثاً عن المخرج والحل.
وكأني أوشك أن أقول أن الأزمات قد تكون سراً من أسرار إعمار الأرض، وكي لا يكون الأمر مستغربا فإن ديننا الحنيف أمرنا أن نصبر على البلاء، وأن نلتمس المنحة من جوف المحنة، وأن نعتقد يقيناً بأن اختيار الله لنا خير من اختيارنا لأنفسنا، وعليه يكون فإن المسلم يكون أقدر من غيره على فلسفة المحن بحيث تكون قوة إيجابية دافعة له نحو التجدد والابتكار والإنتاج، وليست مدعاة للإحباط والتراجع والهزيمة.
إن من الحكمة أن نملك شجاعة الاعتراف بأن عالم اليوم هو عالم الأزمات لأسباب كثيرة ومتنوعة بعضها يتعلق بحجم التغييرات الهائلة التي حدثت وتحدث في مجالات الحياة السياسة والاقتصادية والاجتماعية، لذلك فإن التحدي الأكبر الذي يواجه الإنسان على سطح هذا الكوكب يتمثل في قدرته على مواجهة مشكلاته وأزماته، فإن نجح في هذا التحدي ضمن البقاء في زمن لا يعترف إلا بالأقوياء، وإن فشل طويت عليه صحائف النسيان إلى الأبد.
كما أنه من الشجاعة كذلك أن نعترف بأن منطقتنا العربية هي أكثر بقاع الأرض موجاً بالأزمات لأسباب جمة، ليس المجال مجالها الآن، لكن المجال هنا هو كيف نملك القدرة على صياغة منهج عربي لمواجهة أزماتنا الراهنة ؟ أقول أولاً وأخيراً إن الاعتماد على الأفكار المعلبة أو الجاهزة أو المستوردة لن يجدي في هذه السبيل، لأن الغير لن يجهد نفسه في تقديم طرقاً مثالية حتى نقضى بها على أزماتنا، ولأن ما يصلح به العلاج في مكان ما قد لا يصلح به العلاج في مكان آخر لاختلاف التركيبة المكانية و الحياتية. فهل نملك الهمة والإرادة يا سادة.. أم ماذا ؟!!. ** مصر