قراءة باردة في دروس معركة "البارد" د. غسان العزي ليس من الغرابة في شيء أن تنقسم الطبقة السياسية في لبنان، وهي التي تخترقها كل أنواع الانقسامات السياسية والمذهبية على خلفية ولاءات إقليمية ودولية متنابذة، حول قراءة الحرب التي دامت نيفا ومائة يوم في مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني وما أضحى معروفا تحت مسمى “عصابة شاكر العبسي" أو “فتح الاسلام". كما انه من الطبيعي الى حد كبير، في بلد مثل لبنان، أن يسارع البعض الى الاستثمار السياسي في انتصار الجيش وان يسعى البعض الآخر الى التخفيف من أهمية هذا الانتصار. الا انه في جميع الاحوال يستحق هذا الحدث الجلل قراءة هادئة تسعى لاستخلاص ما أمكن من الدروس المفيدة لمستقبل هذا البلد الجريح. بداية يمكن القول إن الجيش اللبناني سجل انتصاراً عسكرياً لا لبس فيه رغم الخسائر الجسيمة التي تكبدها والوقت الطويل جداً الذي استغرقته المعركة. والسبب، كما هو معروف أن الجيوش النظامية، مهما كانت قوية ومجهزة، تعجز عن الحسم السريع للمواجهات في حرب العصابات المسلحة، والتاريخ يقدم لنا لائحة لا تنتهي بالامثلة والنماذج في هذا المضمار. الامريكيون والفرنسيون والبريطانيون والروس و"الاسرائيليون" عانوا ولا يزالون من هذا النوع من الحروب. والجيش اللبناني ليس جيشاً قوياً حديثاً ولا يملك الحد الأدنى الضروري من السلاح والعتاد لمثل هذه المواجهات أو غيرها، ولطالما تم التعاطي معه طيلة عقود الوصاية السورية الثلاثة على انه مجرد كتيبة ملحقة بالجيش السوري لمهام داخلية بسيطة لا كجيش وطني عليه الذود عن حياض الوطن في وجه القوة “الاسرائيلية" المعتدية. وللعدالة ينبغي القول إن حاله لم تكن بأفضل قبل هذه الوصاية ولا بعدها. ويزداد الأمر تعقيداً في حالة مخيم نهر البارد الذي كان يكتظ بالمدنيين عند بداية المعركة والتي طالت ايضاً بسبب تفادي تعريضهم للخطر، اذ لم تحسم المعركة إلا بعد خروجهم بالكامل من المخيم. حساسية الوضع مزدوجة، هناك مدنيون أبرياء وجلهم من الفلسطينيين على خلفية الخوف من أن ينسحب الوضع الخطير على العلاقة اللبنانية-الفلسطينية التي تعاني من كل الأمراض التي نخرت أجساد فلسطين ولبنان والنظام الإقليمي العربي المترنح. الانتصار اللبناني في شقه العسكري يعني أن الجيش اللبناني مؤهل، في ما لو تم تسليحه واعداده كما ينبغي، لأن يكون جيشاً وطنياً مثل كل جيوش الدول المستقلة التي تلقى على كواهلها مهام حماية الحدود والاستقرار واللحمة الوطنية. وليتوقفوا عن اخافتنا، عند كل أزمة ومنعطف، من انقسام الجيش أو انفراط عقده. فبمجرد أن تركوه يعمل، ولو بحد أدنى من الغطاء السياسي، أثبت قدرته على تحمل المسؤولية، لا فرق بين مسلميه ومسيحييه وسنته وشيعته فقد سقط له شهداء من كل الملل والنحل في سبيل الواجب الوطني الذي ارتقى الى مستوى القداسة. على الصعيد الشعبي بينت حرب البارد وحدة الشعب اللبناني خلف جيشه وهذا ما بدا جلياً طيلة الاشهر الثلاثة من القتال، كما بدا بشكل أوضح من خلال الاحتفالات بالنصر التي عمت الأراضي اللبنانية ومن خلال تعاون أهالي المناطق المحاذية للمخيم مع الجيش خلال المعارك وما بعدها إذ إنهم تكبدوا المخاطر للمشاركة في عمليات ملاحقة الفارين من عصابة العبسي الذين لم يجدوا ملاذاً آمناً بين السكان. هنا يكمن الفرق بين المقاومة والإرهاب. فبحسب تعبير ماوتسي تونغ الشهير لا تكون مقاومة إلا تلك التي تسبح كالسمكة في الماء بين السكان المحليين، وعلى ما يقول تشي غيفارا فإن الفرق بين المقاومة وعصابة اللصوص يكمن في أن الاولى تجد ملاذا آمنا بين السكان الذين يقدمون لها العون والمخبأ والدعم. لقد برهن اللبنانيون، في غالبيتهم الساحقة على الاقل، انهم ضد مثل هذه الظواهر الغريبة الشاذة وبالتالي لا يمكن للبنان أن يكون ارض جهاد أو حتى نصرة بحسب التعابير المستخدمة في قاموس تنظيم القاعدة. هذا لا يعني بالضرورة أن الارض اللبنانية باتت خالية من الظواهر الإرهابية ذلك أن “فتح الاسلام" ليست الا واحدة منها ولا يزال الدرب طويلاً امام اللبنانيين لتنظيف بلادهم من هكذا ظواهر، ولذلك شروط اولها طبقة سياسية غير هذه التي تكن الولاءات لغير الوطن. لقد نجح الجيش في عزل المعركة عن الانقسام السياسي الحاصل والتجاذبات السياسية القائمة وبرهن عن الكثير من الحكمة والاتزان ما منع انتشار لهيب الحرب الى المخيمات الفلسطينية أو غيرها. وبالتالي كان النجاح سياسياً وعسكرياً على السواء. لكن دخول الإنجاز في بازار الاستحقاق الرئاسي خطف الكثير من بريقه ما يستلزم قراءات هادئة بعيداً عن هذا البريق. من المؤكد أن الجيش لو فشل في هذه الحرب أو انهزم لكان وجود لبنان نفسه قد اضحى في مهب الريح. لذلك لا مبالغة في القول إن المعركة كانت، في حيز منها على الاقل، معركة استقلال ووجود بمعزل عن هوية الذين زجوا الجيش أو المسلحين في القتال وهوية الإرهابيين وانتماءاتهم ومن يقف خلفهم، فهذا سيكون جزءاً من لائحة طويلة من الاسئلة التي على التحقيقات العدلية أن تكشفها في وقت لا ينبغي أن يكون طويلا. تنفتح نهاية معركة البارد على ورشة تفكير من شقين: الأول استراتيجي يتعلق بدور الجيش من الآن وصاعداً في عملية إعادة بناء الدولة اللبنانية. هنا تكمن إشكالية مستعصية وهي أن لبنان تحكمه طبقة سياسية لطالما حرصت على إبقاء الدولة ضعيفة اشبه بالبقرة الحلوب لحساب المصالح الفئوية الضيقة، فهل يستطيع الجيش التصدي لهذه الإشكالية واخذ زمام المبادرة لاطلاق مثل عملية إعادة البناء هذه على خلفية تشرذم طائفي-سياسي ونفوذ دولي وإقليمي اخترق النسيج السياسي من دون أن يعرض كامل التركيبة اللبنانية الهشة لمخاطر التفكك والتصادم؟ طالما أن الجواب معروف هنا فإن السؤال سيبقى معلقاً في انتظار تبلور ظروف مختلفة، ما يجعل الشق الثاني أكثر إلحاحية، وهو المتعلق بإعادة بناء مخيم البارد والحرص على المناخ الوطني- العربي- الدولي الذي جعل الانتصار في البارد ممكناً والذي عليه أن يمنع حصول مواجهة شبيهة في بقعة لبنانية أخرى وأن يجعل الانتصار فيها ممكناً إذا حصلت ولكن بسرعة أكبر وفعالية أشد هذه المرة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 15/9/2007