كركوك بين التكريد والتدويل د. عيدة المطلق قناة تقف المطامع الإقليمية والدولية وراء ما تتعرض له مدينة كركوك من هجوم كاسح منظم ومنسق تشنه القوى المحلية والإقليمية والدولية لتقرير مصير هذه المدينة العراقية بامتياز في بورصة جيوسياسية معقدة ظالمة. فمع تناقض المصالح تتناقض الحلول وتتصادم حتى الخروج عن السياق الكلي لشروط الصيرورة العراقية. منذ الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق في عام 2003 ومسألة كركوك تتصاعد باتجاه خطير حيث هناك ممالأة ونفاق أمريكي، إذ أطلق الاحتلال يد أمراء الحرب الأكراد في المدينة فاستقدموا الآلاف من الأكراد وهجروا الآلاف من العرب والتركمان والأشوريين والكلدان تمهيداً لإعلانها مدينة كردية خالصة وفصلها بالنتيجة عن الوطن العراقي الأم. استغلت الأحزاب الكردية نفوذها ووضعها التفضيلي لدى قوات الاحتلال ففرضت في الدستور المادة (140) التي حددت حلاً لمدينة كركوك من ثلاث مراحل: التطبيع، فالاحصاء، فالاستفتاء لمعرفة رغبة السكان في الانضمام الى الخريطة الإدارية لكردستان العراق في مدة اقصاها (31/12/2007)، وبذلك تكون تلك المادة قد شكلت سابقة خطيرة تباينت حولها المواقف وتصادمت.. ومع انتهاء مسرحية الاستفتاء على ما يسمى بالدستور ( نهاية عام 2005 ) بدأت حكومة نوري المالكي باستشعار الخطر، فأعلن بأن هناك ظروفاً استثنائية تمنعه من تطبيق الحل الذي قدّمه الدستور بينها المخاطر الإقليمية، والتركية على الخصوص. وأعلن أن الأولوية هي لما أسماه “المصالحة الوطنية". شكلت حكومة المالكي لجنة عليا حكومية تناوب على رئاستها كل من (حميد مجيد موسى - رئيس الحزب الشيوعي العراقي فهاشم الشبلي وزير العدل العراقي السابق.. ثم موفق الربيعي رئيس ما يسمى بمجلس الأمن القومي). مهمة هذه اللجنة تطبيع الأوضاع في كركوك، وعودة جميع المرحلين، ووضعت اللجنة توصياتها للتطبيق فكان من بينها التوصية ب “تعويض العائلات العربية العراقية الوافدة التي تريد العودة طوعاً الى مواطنها الأصلية وسط العراق وجنوبه" لكن المالكي لم يصادق -حتى تاريخه- على توصيات تلك اللجنة وارتأى تأجيلها. الأكراد من جانبهم رفضوا تأجيل المادة 140 على اعتبار أن هذا التأجيل سيخلق ظروفا معقدة وقد يؤدي إلى نتائج كارثية، بل إن أوساطاً كردية لم تعد تخفي تذمرها، وأخذوا يهددون بخوض حرب من أجل كركوك وإنشاء حالة فوضى فيها كدليل على استحالة التعايش العربي الكردي في عراق موحد. فالأكراد يريدون كركوك مدينة كردية خالصة، وأن إجراء أي تعديل على المادة 140 أمر محال وأي مس بالمصالح الكردية سيرفض. لأنه يهدف إلى “التقليل من مكتسبات الشعب الكردي" (بحسب مسعود البرزاني ) التركمان من جانبهم لهم موقف مختلف، فهم يرون بأن السياسة التي يتبعها أكراد العراق في مدينة كركوك إنما تهدف إلى طردهم منها.. وحذروا التحالف الرباعي الحاكم من المساومة على مصير كركوك أو المساس بهوية كركوك العراقية؛ أو جعلها ورقة للمساومات.. واتهموا السلطات الكردية “بشن حملات تكريد" واسعة تمهيدا لزج الآلاف في الاستفتاء المقرر نهاية العام الحالي. أما تركيا الدولة الإقليمية ذات الأجندة الخاصة في ما يتعلق بكركوك فإنها تخشى من استحواذ أكراد العراق على نفط كركوك، كما تخشى من استثارة النوازع الانفصالية لدى الأكراد الأتراك، فحذرت من مغبة بسط سيطرة الأكراد على “كركوك" وطالبت بتأجيل الاستفتاء على مصيرها، بل وهددت بأنه في حال فصل كركوك عن العراق فإنها لن تقف مكتوفة الأيدي. الأمريكيون من جانبهم يرون -على لسان سفيرهم في العراق “رايان كروكر" - بأنه من الصعب اجراء الاستفتاء حول كركوك في موعده المحدد، فالحال الأمريكي في العراق لا يسر وغير مطمئن، من هنا اقترح الأمريكيون عرض المسألة على الأممالمتحدة تمهيداً لتدويل الحل في كركوك.. فاتخذ مجلس الأمن قراره رقم (1770) القاضي بتوسيع دور الاممالمتحدة في العراق ؛ وهو القرار الذي رفضه الأكراد وأيده التركمان.. على أن أخطر ما في الجدل القائم حول كركوك يتمثل في المناداة بفصلها عن الوطن الأم وضمها إلى إقليم مرشح للانفصال بدوره، وهو طرح يعتبر سابقة خطيرة، وتتفق جميع الأطياف العراقية المعنية بشأن كركوك على عراقيتها وتحذر من مغبة الاستفتاء على مصيرها فالاستفتاءات خاصة تلك التي تجري في ظل الاحتلال غالباً ما تكون فاقدة للمصداقية.. أما بالنسبة للاستفتاء المقترح على مصير كركوك فإنه ينطلق أصلاً من منطلقات غير علمية وغير وطنية وبالتالي فهو محكوم بالفشل والفساد. فقضية كركوك شأن عراقي بامتياز، ويجب أن يكون الحل عراقياً بامتياز كذلك، إذ من دون اتفاق الأكراد مع التركمان والعرب على الحل ستبقى الأمور على حالها بل ستكون مرشحة لمزيد من التوتر والتصادم.. أما ترك الأمور لأمراء الحرب والقطيعة لاستغلال المأساة العراقية فتلك خطيئة بل خيانة بحق الوطن العراقي ومستقبله. فالوطني الحقيقي لا يرضى لوطنه التجزئة، والعراقيون الأحرار لن يقبلوا بحال أن يكونوا شهود زور على أكبر عملية سطو في التاريخ، وعليهم أن يجسدوا عبر كركوك الوحدة والتآلف والاندماج والتآخي، لا أن يدعوها تتحول بأيدي باغية إلى بؤرة لتدمير ما تبقى من العراق الوطن والإنسان والحضارة والثروة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 11/9/2007