بضوء اخضر أمريكي وبرغبة صهيونية وبتنفيذ مصري وبتجاوب من حماس والجهاد تشهد العريش حوارات ماراثونية متواصلة ومنذ أيام للتوصل إلى هدنة بعد شلال الدم الغزير الذي أريق ولا يزال في الضفة والقطاع، خصوصا بعد عملية القدس الفدائية.
والسؤال المطروح، لماذا يرغب الكيان الصهيوني بالهدنة، ولماذا أعطت الإدارة الأمريكية الضوء الأخضر لمصر للشروع في حوارات مع حماس والجهاد حول الهدنة رغم الحصار الميداني والسياسي الذي تفرضه الإدارة الأمريكية ومنظومتها في العالم على حماس وعلى تجربة حكمها الغضة في غزة، ولماذا تجاوبت حماس والجهاد مع دعوة القاهرة للشروع في حوارات الهدنة..؟ تساؤلات كثيرة سنحاول الإجابة عليها من خلال استعراض مصالح كل طرف من الأطراف من عقد هذه الهدنة.
على المستوى الصهيوني:
أثبتت الوقائع على الأرض المستمرة منذ نحو عامين أي منذ فوز حماس في الانتخابات التشريعية فشل الخيارات الصهيونية بإسقاط حماس ومنظومتها وتجربتها في المقاومة أولا ثم في الحكم ثانيا، فبعد أعوام طويلة من المواجهة حماس تتعاظم وتتمدد فيما الكيان الصهيوني يضعف وينكمش ويهرب من غزة ويفشل في إسناد وكيله في الضفة –حكومة فياض- وبعد عامين من الحصار والمؤامرات يفشل الكيان الصهيوني ومعه كل منظومته الدولية والعربية وحتى الفلسطينية في النيل من حماس وإسقاط حكمها في غزة.
وبعد حرب الأيام الستة شمال القطاع قبل أيام وما صاحبها من شلالات من دماء الأبرياء التي نالت من صورة الكيان الصهيوني أمام كل دول العالم، وما صحاب ذلك من خسائر صهيونية كبيرة نجحت حتى الآن في إخفائها، الأمر الذي نال من سمعة وصورة هذا الجيش الذي قهرته المقاومة في الساحة اللبنانية والساحة الفلسطينية، إضافة لما مثلته عمليتي ديمونة والقدس من تنبيه الكيان الصهيوني لخيارات المقاومة المفتوحة لجهة نقل ساحة المواجهة الى قلب الكيان الصهيوني مرة اخرى على غرار العمليات الفدائية التي هزت اغلب مدن الكيان الصهيوني ابان عقد تسعينيات القرن الماضي الأمر الذي ربما اجبر الكيان على اعادة النظر في خيارات تعامله مع حماس وحكمها في غزة.
خصوصا وأن عملية الشتاء الساخن كانت عملية متدحرجة تهدف لاعادة احتلال شمال القطاع ووسطه وجنوبه بما يهيئ الارض لعودة سيطرة حركة فتح على مقاليد الامور في القطاع الامر الذي اثبتته الأدلة التي حازتها اجهزة حكومة هنية الامنية، وقد استند هذا الرهان الصهيوني الفتحاوي على غزارة الدماء وكثرة الخراب والدمار لجهة قيادة انقلاب شعبي ضد حماس ومقاومتها وحكومتها في غزة، وفشل هذا الخيار ربما ساهم في تعزيز خيار التوصل لهدنة مع حماس.
رغبة الكيان الصهيوني في تهدئة ساحة المواجهة مع المقاومة في غزة لجهة الاستعداد للتفرغ لساحة المواجهة التي بدأت التسريبات بقرب اشتعالها مرة اخرى مع حزب الله شمال فلسطينالمحتلة، الأمر الذي تعززه التحضيرات الامريكية ومدمراتها التي يتوالى قدومها الى المنطقة استعدادا ربما للمواجهة القادمة مع قوى المقاومة المتمثلة في ايران وسوريا وحزب الله، لذلك ولكل ما سبق وغيره ربما يرغب الكيان في فرض تهدئة في قطاع غزة ولكن دون ان يدفع الثمن الذي تطلبه المقاومة في شراء واضح للوقت تقوم خلاله بالهاب حمى الاستيطان في الضفة والقدس مرة اخرى، وتواصل حفرياتها للنيل من الاقصى واساساته لجهة التسريع في هدمه مستغلة الضعف العربي والاسلامي غير المسبوق.
استمرار المواجهة مع قوى المقاومة يضعف موقف الرئيس عباس الذي اختار المفاوضات مع الكيان الصهيوني، ولا يجعله فلسطينيا وعربيا واسلاميا مؤهلا للتوصل الى أي اتفاق حول الملفات الفلسطينية العالقة، ولكن التوصل لتهدئة مع فصائل المقاومة يعزز موقف الرئيس عباس التفاوضي ليس لجهة الحصول على مزيد من التنازلات ولكن لجهة كونه العنوان الوحيد للتفاوض والتوقيع على اتفاقيات مع الكيان الصهيوني، وهو ما يريده الكيان خصوصا حيال قضايا معقدة كالقدس واللاجئين.
حدوث التهدئة بين قوى المقاومة وبين الكيان الصهيوني يتيح لحكومة فياض مزيد من التطبيق الفعلي للشق الامني من خارطة الطريق وهي ملاحقة بل وانهاء المقاومة في الضفة الغربية، حيث ان استمرار المقاومة في غزة يحرج منظومة فياض الامنية كوكيل امني للاحتلال في ملاحقة قوى المقاومة في الضفة.
على المستوى الأمريكي
تشهد الساحة الأمريكية الداخلية حمى الانتخابات الداخلية استعداد للانتخابات الرئاسية القادمة، ويبدوا ان الملف الفلسطيني الصهيوني يحظى بأولوية على جدول أعمال أي إدارة أمريكية، ولتعزيز فرص حزب بوش في الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة ترغب الإدارة الأمريكية في تهيئة الأجواء لإيهام الجميع وخصوصا ساحتها الداخلية بتحقيق انجاز على صعيد الملف الفلسطيني يضمن المصالح الصهيونية –بكل ما لها من تأثير على مجريات الانتخابات الامريكية- وبما يؤجل ويرحل حسم هذا الملف الشائك للادارة الامريكية القادمة.
تخوض الادارة الامريكية حروبا خاسرة في الساحة الافغانية والساحة العراقية، وتستعد لمواجهة وشيكة مع ايران كطليعة نووية لقوى دولية نووية واقتصادية صاعدة كالصين والهند وروسيا، وفي ظل الاحتياطي النفطي الذي تتمتع به ايران مع ما يشده النفط من حمى ارتفاع الاسعار، وما يستدعيه ذلك من حاجة امريكية لتأمبن مزيد من الاحتياطي النفطي، كل ذلك ربما يفرض على الادارة الامريكية اعتماد تفعيل سياسة قديمة وهي دفع اذنابها لخوض حروبها بالوكالة وتعزيز خيار الفوضى الخلاقة لجهة تحقيق المصالح الامريكية الامر الذي بات يتجلى في صحوات العراق، والموالاة في لبنان وكرزاي في افغانستان، وحكومة فياض في الضفة.
التهدئة تتيح لحكومة حماس في غزة تطبيق برنامجها الانتخابي في التغيير والاصلاح، وذلك عبر كسر الحصار الذي سيسمح بعودة الحياة الى طبيعتها في شوارع قطاع غزة، وادخال كثير من المستلزمات التي ستمكن اجهزة الحكومة الامنية من تحقيق الامن المطلوب لرفاهية سكان القطاع.
ستسمح التهدئة لحماس بفترة هدوء تسمح لها بترميم جسمها التنظيمي الذي توزعت مهامه على عجل بين العمل التنظيمي والعمل الحكومي والعمل العسكري، لجهة تطبيق برامج الحركة في التوسع والاستيعاب لمختلف القطاعات التي اقبلت عليها وانفتحت عليها عقب فوزها في الانتخابات التشريعية ولم تسمح لها الظروف الموضوعية والميدانية باستيعابها لجهة توظيفها ضمن المشروع الاسلامي التحرري الذي تقوده باقتدار.
كما ستسمح التهدئة لحماس باعادة النظر بموضوعية وهدوء في تجربتها لجهة التقييم والاستفادة من الأخطاء لصالح تقويم المسار والتغلب على الأخطاء الكثيرة التي شابت هذه التجربة الاولى لها في تاريخها، الأمر الذي سيمح لها بالمحافظة على عملها كمؤسسة منظمة تحافظ على قياداتها وتصعد قيادات وكوادر جديدة لتقود هذا العمل نحو الهدف المنشود.
وربما تسمح التهدئة باتمام صفقة تبادل الاسرى بما يضمن الافراج عن مئات الاسرى خصوصا من ذوي المحكوميات العالية والذين قضوا زهرة عمرهم في اقبية الاحتلال، الأمر الذي سيضيف للحركة قوة وشعبية وبريقا اضافيا تثبت مصداقيها على اكثر من صعيد.
كل ما سبق سيسمح لحماس كحركة اسلامية بترسيخ تجربتها كنموذج يصب في صالح تشجيع الحركات الاسلامية في الساحات العربية المجاورة على خوض ذات التجربة مستندة الى نجاح تجربة حماس الفريدة رغم كونها تحت الاحتلال.
هذا عدا عن كون نجاح تجربة حماس كنموذج سييفتح امامها مزيد من الافاق العالمية لجهة تطوير العلاقات مع مختلف القوى العاملة والمؤيدة والمناصرة للقضية الفلسطينية.
الا انه وبالنظر الى النصف الفارغ من الكاس قد يتيح جنوح حماس نحو التهدئة للاخرين تفسير الامر على غير محمله تماما كالمنحى الذي ذهب اليه الرئيس عباس باتهام حماس بالجنوح للتهدئة لحماية نفسها وقادتها ورموزها الامر الذي تدحضه الوقائع فالجميع يرى كيف قدم قادة حماس انفسهم وابنائهم ومنازلهم قرابين لله على طريق الحرية والتحرير، وغني عن القول ان هذه الاتهامات تستهدف اضعاف الالتفاف الجماهيري حول حماس وتجربتها في الحكم، فضلا عن اظهارها كحركة انانية تخلت عن حلفائها من حركات المقاومة الاخرى خصوصا في الساحة اللبنانية.
على صعيد الساحة الداخلية والفصائل:
ستسمح التهدئة للفصائل بالجلوس الى بعضها والتفكير بهدوء لجهة اعادة اللحمة الداخلية لجهة التوصل لاتفاقات وطنية على ارضية الاتفاقات السابقة في القاهرة ومكة، لجهة توحيد الخطاب السياسي بما يسمح بتحسين صورة الفلسطيني في الخارج تلك الصورة التي اساءت اليها كثيرا الخلافات الداخلية، اما ما قد يهدد هذا الوفاق الداخلي هو انفراد بعض الفصائل بمواقف خاصة قد تسئ الى انضباطها بالتهدئة، ومثال ذلك الواضح الصواريخ الاحتجاجية التي قامت كتائب ابو علي مصطفى باطلاقها احتجاجا على عدم ضمها لحوارات العريش التي تقوم بها حماس والجهاد الاسلامي مع المصريين باطلاقها صواريخ على زكيم وعسقلان، علما ان كتائب ابو علي مصطفى لم تطلق رصاصة واحدة على الاحتلال ابان عملية الشتاء الساخن العدواني ضد شمال القطاع..!!
الا انه بالنسبة للحوار مع فتح يبدوا من الصعوبة بمكان تحقيقه خاصة وأن قرارها حيال هذا الامر بات مرتبطا بالاجندات الخارجية، فعلى الصعيد الصهيوني أي تقارب لفتح التي يقودها الرئيس عباس مع حماس سينسف اساس المفاوضات التي يلهث عباس خلفها رغم حمامات الدم في غزة والضفة ما حول سطلته الى وكيل امني بامتياز، اما دوليا فاي تقارب مع حماس سيغلق صنبور اموال المانحين والتي رغم اقرار دفعها بالمليارات في مؤتمر باريس ما زالت تصل الى خزينة عباس بالقطارة وحسب الرضا الصهيوني عن سلوكه.
الرؤية والشروط:
وبغض النظر عن الشروط التي قد ترغب حماس وقوى المقاومة في بفرضها للشروع في تهدئة والتي قد يكون من بينها الافراج عن الاسرى ، ووقف كل مظاهر العدوان كالاجتياحات والاغتيالات، وفتح المعابر بما يعني انهاء الحصار وفشل الرهان على اسقاط حماس، فان الاهم المطروح امام قادة حماس هي طبيعة رؤيتهم للهدنة، حيث يبدوا أن امامهم خيارين :
الاول: النظر اليها كاستراحة مقاتل لالتقاط الانفاس وترميم الصفوف والتزود بالعدة والعتاد واستكمال البناء والتدريب استعداد للجولة القادمة.
الثاني: النظر اليها بنظرة استرتيجية لجهة البناء عليها كمشروع سياسي يتناغم مع الطرح الذي بدأه شيخ المجاهدين الشهيد احمد ياسين باستعداد حركته لعقد هدنة تدوم عشر سنوات او عشرين سنة لكن دون الاعتراف بدولة الاحتلال او التخلي عن شبر واحد من ارض فلسطين، في مراهنة واضحة على عامل الزمن في إحداث التغيير المطلوب نحو تهيئة الساحات العربية والاسلامية لجهة تحرير فلسطين طبقا للوعد الالهي الثابت في كتابه الكريم.