العرب ضيعوا فرصتهم في إفريقيا فهمي هويدي من مفارقات حياتنا السياسية, أنه في حين تتنافس الدول الكبري علي إفريقيا, فإن عالمنا العربي لايزال يتمنع عليها, برغم أن عشرا من الدول الإفريقية دول عربية. حين زار الرئيس مبارك الأسبوع الماضي جنوب إفريقيا وأوغندا, احتل اسم إفريقيا مكانة علي الصفحات الأولي من الصحف المصرية علي الأقل, وهو ما استمر طوال أربعة أو خمسة أيام, الأمر الذي استصحب نشر تعليقات عنه تحدثت عن التعاون والتكامل في مجالات عدة, تجارية وزراعية ومائية, وتلك لغة جديدة نسبيا في إعلام المرحلة الراهنة, الذي أصبحت إفريقيا تذكر فيه مقترنة بأخبار المجاعات والحروب الأهلية, وغير ذلك من الكوارث التي تحيق بالبشر( تستثني من ذلك مباريات كأس إفريقيا لكرة القدم), ولم يكن ذلك موقفا من الإعلام بقدر ما كان مرآة للحاصل في السياسة, ذلك أننا ينبغي أن نعترف بأن الشأن الإفريقي تراجع في أولويات السياسة المصرية خلال العقود الثلاثة الأخيرة, وليس معروفا ما اذا كان التطور الأخير تعبيرا عن تصويب للرؤية الاستراتيجية وهو ما نتمناه أم أنه أوثق صلة بالحسابات السياسية المرحلية. للدقة فإن التراجع ليس مقصورا علي مصر وحدها, وإنما هو حاصل علي المستوي العربي أيضا, الذي لم نلمس له اعتناء بتوثيق العلاقات مع بقية دول القارة الإفريقية, ويعد الدور الليبي في هذا السياق حالة خاصة في دوافعه ومقاصده, وبرغم أنه دور مقدر في كل أحواله, فإنه يتأثر كثيرا بالتقلبات السياسية, إضافة الي أنه يظل محدودا ومحكوما بسقف القدرات الليبية, التي اذا تميزت علي صعيد التمويل, إلا أنها تعاني القصور في القدرات البشرية والفنية. لا مفر في هذا الصدد من الاعتراف أيضا, بأن العالم العربي لم يستطع أن يستثمر الميزات النسبية التي توافرت لعلاقته مع القارة الإفريقية, وعلي رأسها الجوار الجغرافي, الذي يشكل عنصرا بالغ الأهمية في توفير النجاح لتحقيق المصالح المشتركة, خصوصا علي الصعيد الاقتصادي والتجاري, إضافة الي الروابط التاريخية والدينية مع مسلمي شرق وغرب إفريقيا. واذا كان مصطلح المصالح يساق في معرض الحديث عن العلاقات العربية الإفريقية, إلا أن مصطلح المصير هو الأدق في التعبير عن صياغة العلاقات المصرية الإفريقية, لسبب جوهري هو أن مياه النيل شريان الحياة لمصر تأتي كلها من قلب إفريقيا, و84% من تلك المياه تصل إليها من دولة واحدة هي إثيوبيا. (2) في الستينيات, لم تكن مصر بحاجة لمن يذكرها بعلاقة المصير التي تربطها بالقارة السوداء, فقد كانت حاضرة بقوة في مختلف أنحاء القارة من خلال دورها في مساندة حركة التحرر الوطني من الاستعمار, الذي كان مخيما علي القارة آنذاك, وفي تلك المرحلة الناصرية كان الدور السياسي موازيا لحضور اقتصادي قوي من خلال شركة النصر للتصدير والاستيراد, التي كان لها نشاطها الكبير في كل إفريقيا, وفي غربها بوجه أخص. لدي السيد محمد فائق مدير مكتب الرئيس عبدالناصر للشئون الإفريقية ثم وزير الإعلام في وقت لاحق, قصص لا حصر لها عن التحرك المصري الواسع في مختلف أرجاء القارة وقتذاك, وعن اهتمام الرئيس عبدالناصر بتفاصيل هذا الدور.. فهو يروي أن رئيس جمهورية الصومال شارمآركي كان في زيارة لأوروبا, وأبلغ بأن الشركات الإيطالية رفضت شراء الموز محصول البلد الرئيسي ومصدر تمويل موازنته, وكانت تلك الشركات مازالت متحكمة في اقتصاد الصومال بعد رحيل الاستعمار الايطالي, جاء الرجل الي القاهرة وعرض المشكلة علي الرئيس عبدالناصر فقرر أن تشتري مصر كل الموز الصومالي, وما إن أعلن النبأ, حتي سارعت الشركات الايطالية الي رفع الحظر, واشترت الموز بالسعر الذي حدده المنتجون. يتحدث الأستاذ فائق أيضا عن الجهد الذي بذل علي مدي عدة سنوات للدخول الي الأسواق الإفريقية, وهو ما اقتضي إجراء تعديل علي ماكينات النسيج لتوفير أحجام القماش المصدر للأثواب التي يرتديها النيجيريون, وإجراء تعديل آخر علي معاصر الزيوت لتصنيع زيت النخيل الذي تتوافر ثماره في العديد من دول القارة, وكانت نتيجة ذلك الجهد أن شركة النصر للتصدير والاستيراد استطاعت تسيير بواخر تحمل البضائع المصرية الي المواني الإفريقية, الأمر الذي أدي الي توفير السلع الهندسية والدراجات والمنسوجات ومختلف المنتجات المصرية في العديد من الدول الإفريقية. من النجاحات التي حققتها مصر في تلك المرحلة, أنها قاومت بشدة الفكرة الاستعمارية الرامية الي التفرقة بين جنوب الصحراء وشمالها, أو بين العرب والأفارقة, وعملت علي ضم قادة القارة وزعماء حركات التحرر فيها الي حركة عدم الانحياز, كما فتحت أبواب القاهرة لممثلي تلك الحركات, الذين تحولوا الي ركيزة الخطاب السياسي الذي عبرت عنه الاذاعات الموجهة. (3) في غياب مصر حدث تطوران مهمان للغاية, الأول هو التمدد الإسرائيلي في أنحاء إفريقيا, الذي من تجلياته أن إسرائيل أصبح لها الآن45 سفارة في إفريقيا, وهو رقم يعادل بالضبط عدد السفارات المصرية هناك, وهذا التمدد رصدته رسالة ماجستير مهمة نوقشت قبل أسبوعين في معهد الدراسات الإفريقية أعدها الباحث حسين حمودة حول العلاقات الإسرائيلية الإفريقية منذ تأسيس الدولة العبرية, بتركيز خاص علي الفترة التي أعقبت عام1991, وحتي الوقت الراهن, وقد تتبع الباحث الدور الإسرائيلي في مختلف الأقطار الإفريقية, ولاحظ أنه برغم الانتشار الواسع لها في القارة فإن3% فقط من التجارة الخارجية الإسرائيلية مع إفريقيا, في حين أن70% من تجارتها مع أوروبا, وخلص من ذلك إلي أن إسرائيل في إفريقيا مهتمة بالعائد السياسي بأكثر من اهتمامها بالعائد الاقتصادي, ونبه الي أن إسرائيل التي نافست بلجيكا في تصنيع الألماس الإفريقي المستخرج من الكونجو, مهتمة باستخراج الثروات الطبيعية وبالاستثمار المباشر أو بالاشتراك مع طرف غربي آخر, ثم أنها أقامت كيبوتسات في كينيا لتصدير بعض السلع( منها الورد) لكي تفوت فرصة رفض منتجات بعض الكيبوتسات في أوروبا بحجة أنها مقامة علي أرض محتلة, ومن الملاحظات المهمة التي أبداها أن السياسة الغربيةوالأمريكية الحريصة علي فصل شمال القارة عن جنوبها, واعتبار الشمال ضمن الشرق الأوسط, والجنوب هو إفريقيا السوداء لها هدف خبيث يستبعد عشر دول عربية من القارة ويقحم معها إسرائيل واعتبارها جزءا من الشرق الأوسط. التطور الآخر المهم في إفريقيا, هو ذلك التنافس علي كنوز القارة وثرواتها المعدنية والنفطية بين الدول الكبري, واذا كانت فرنسا وانجلترا هما الدولتين اللتين كانتا لهما اليد الطولي في استعمار إفريقيا ونهب ثرواتها, فإن المتنافسين الجديدين هما الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين( ثمة تقدير يري أن ربع احتياجات الولاياتالمتحدة من النفط خلال العشرين سنة المقبلة سيكون مصدره إفريقيا, وأن واشنطن تريد من ذلك أن تقلل من اعتمادها علي نفط الشرق الأوسط). للدكتور فرج عبدالفتاح أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة بحث أخير سلط فيه أضواء قوية علي العلاقات العربية الإفريقية, ومن الملاحظات التي سجلها أن الولاياتالمتحدة أصدرت عام2000 قانون الفرص والنمو, الذي فتح الأبواب لاستيراد الصادرات الإفريقية بلا ضرائب جمركية واشترط فقط أن تكون الدول المصدرة أكثر انفتاحا وديمقراطية, وقد استفادت25 دولة إفريقية جنوب الصحراء من هذه التسهيلات, ولأن الصين تنافسها إفريقيا فأنها قررت في سنة2006 رفع الضرائب عن190 سلعة من الصادرات الإفريقية, زاد عددها بعد ذلك حتي أصبحت440 سلعة الآن, وهو ما أوصل حجم تجارة الصين مع إفريقيا الي45 مليار دولار في سنة2007. من الملاحظات أيضا, أن الولاياتالمتحدة أصبحت الشريك الاقتصادي الأول للقارة الإفريقية, تليها في الترتيب دول الاتحاد الأوروبي, أما الصين فتأتي في المرتبة الثالثة, وبعدها الهند التي تحاول تنشيط حضورها في الأسواق الإفريقية, وتعتبر جنوب إفريقيا الشريك التجاري الرئيسي لها في القارة, وللعلم فإن الهند عقدت في شهر ابريل من العام الحالي مؤتمر قمة إفريقية هندية, اسقطت فيه نسبة غير قليلة من ديونها علي دول القارة, وقررت تقديم500 مليون دولار سنويا للتنمية في دولها, وقبل ذلك في عام2006 عقدت في بكين قمة صينية إفريقية, وشهدت لشبونة في العام الذي يليه(2007) قمة إفريقية أوروبية, وأخيرا شكلت الولاياتالمتحدة لأول مرة في تاريخها القيادة المركزية الإفريقية إفريكوم. (4) تشير الأرقام الي أن7% فقط من التجارة العربية تذهب الي إفريقيا, وأن10% فقط من تجارة الدول العربية يوجه الي القارة ذاتها, وهو يجسد المفارقة التي سبقت الإشارة إليها, متمثلة في تمنع مصر والدول العربية عن استثمار الفرص الكبيرة المتاحة في إفريقيا, التي تتنافس عليها الدول الكبري في الغرب والشرق, وهو ما عقب عليه زميلنا أحمد النجار رئيس تحرير التقرير الاقتصادي الاستراتيجي, بقوله إن عرب النفط بوجه أخص ضيعوا فرصة تاريخية نادرة كان يمكن الإفادة منها في إحداث طفرة اقتصادية كبيرة, حينما توافرت لهم فوائض مالية هائلة في السنوات الأخيرة, كان يمكن توجيه بعضها لاستثمار الموارد المتوافرة في إفريقيا, وهي ذات الفرصة التي أفادت منها اليابان, حين استفادت من قاعدة الموارد المعدنية الموجودة في شرق وجنوب شرق آسيا, في تطوير صناعات عملاقة, جعلتها مثلا في صدارة الدول المنتجة للألومنيوم, برغم أنها لا تملك أية خامات لتلك الصناعة. لا غرابة في أن تسعي الدول الكبري الي اختراق الأسواق الإفريقية الغنية بمواردها الطبيعية والهيمنة عليها, فهذه الدول لها استراتيجياتها ومخططاتها التي تخدم مصالحها, ونحن نخطئ اذا استسلمنا للغضب والاحتجاج إزاء ما يفعلونه, لأن السؤال المهم هو: أين استراتيجيتنا المقابلة ورؤيتنا السياسية الخاصة, ولماذا نظل نمد أبصارنا إلي الغرب دائما, ولا نحاول أن نتطلع الي مواقع أقدامنا؟ إن المشكلة تكمن في خلل رؤيتنا الاستراتيجية وغياب القرار السياسي, بأكثر منها في مخططات الآخرين ومؤامراتهم. عن صحيفة الاهرام المصرية 5/8/2008