الأساطيل الأمريكية تهدد القارة اللاتينية.. لماذا؟ وكيف؟ إميل أمين نظرت الولاياتالمتحدةالأمريكية طويلاً إلى دول أمريكا اللاتينية انطلاقاً من مبدأ مونرو القائم على مفهوم أنه لا يحق لأحد أن يتدخل في شؤون القارة اللاتينية سوى واشنطن فقط، وقد عبر مونرو باختصار عن هذه العلاقة بقوله “للأوروبيين القارة القديمة" وللأمريكيين القارة الجديدة.
ويجمل المحرر الفنزويلي سيمون بوليفار الذي قاد ثورة الإنديز العلاقة بين الطرفين بقوله “يبدو أن قدر الولاياتالمتحدة أن تعذب وترهق الدول اللاتينية باسم الحرية"، والتساؤل ما الذي يدعونا إلى فتح صفحة العلاقات بين شمال القارة الأمريكية وجنوبها؟
يتعلق الجواب بتحركات الأسطول الرابع الأمريكي الذي أعيد ابتعاثه وتخليقه من جديد في مياه القارة الجنوبية بما يحمل على القول إن سيناريو ما يتشكل في واشنطن ويتقاطع ولا شك سلباً مع مصالح القارة اللاتينية، ولعله من المفيد في هذا السياق أن يتوقف المرء أمام ما آلت إليه الأوضاع بالنسبة لعلاقات الطرفين، فماذا عن هذا؟
تذهب مجلة “فورين بوليسي" الأمريكية في أحد أعدادها الأخيرة للقول إن “العلاقة بين الولاياتالمتحدة ودول أمريكا اللاتينية قد تردت إلى أدنى مستوى لها منذ نهاية الحرب الباردة فبعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر ضعف اهتمام واشنطن بالمنطقة واقتصر التدخل في الأحوال الطارئة وبادلت دول المنطقة ضعف الاهتمام الشمالي بتضاؤل دعمها لسياسات واشنطن فقلة من الحكومات الأمريكية اللاتينية اليوم أصبحت من خلال علاقات جديدة لها تمثل هاجساً خطيراً لسياسات أمريكا العظمى وتهدد نظرية القطبية المنفردة".
والمقطوع به أن تلك العلاقات تتمحور في مركزين رئيسيين لا ثالث لهما الصين وروسيا، وهنا تبقى علامة الاستفهام هل جاءت تحركات الأسطول الرابع الأمريكي استعداداً لدورة جديدة من بسط النفوذ والهيمنة الأمريكية على دول القارة اللاتينية وقطع الطريق على أي من القوى الصاعدة لتوثيق علاقاتها بالأنظمة السياسية اللاتينية، لاسيما البارزة منها، مثل نظام الرئيس هوجو شافيز في فنزويلا الذي مضى في مسيرة متقدمة عبر علاقات قوية مع روسيا والصين؟
تشير “فيجارو" الفرنسية إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية قد ابتعثت الأسطول البحري الأمريكي الرابع وأمرته بالإبحار في مياه أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، وهذا الأسطول كان قد تشكل في عام 1943 خلال الحرب العالمية الثانية لمواجهة زحف ألمانيا واليابان في المحيط الأطلسي لكنها أبطلت عمليات هذا الأسطول في العام 1950 وعلقت قرار إعادة تنشيطه حتى أبريل الماضي تحت إشراف القيادة الجنوبية ومقرها ولاية فلوريدا الأمريكية.
لماذا جاء هذا الإحياء، وهل ما لدى واشنطن من قوة بحرية ضاربة لا يكفي؟
الشاهد أن تصريحات كل من وكيل وزارة الخارجية الأمريكية شانون ورئيس القيادة الجنوبية الأدميرال جيمس ستفريديس تشير إلى أن إعادة تنشيط الأسطول الرابع يأتي تحسباً لوقوع كوارث طبيعية وللقيام بعمليات إنسانية وتقديم المعونة الطبية، وكذلك مكافحة تجارة المخدرات والتعاون في مجالات بيئية وتكنولوجية، ورغم النفي الأمريكي الرسمي فإن الأدميرال ستفريديس قد أقر بأن حاملة الطائرات جورج واشنطن قد تعبر المياه الإقليمية وتنضم إلى الأسطول الرابع.
ويبقى التساؤل: لماذا يشكل تحرك الأساطيل الأمريكية ناحية القارة اللاتينية شاغلا للمحللين السياسيين والعسكريين، لاسيما أنه يستتبع بمخاوف جديدة من لجوء إدارة بوش أو ما يليها من إدارات للقيام بمغامرات عسكرية تقود ولا شك إلى مواجهات عسكرية دولية؟
يمكننا القول في هذا السياق إن دول أمريكا اللاتينية باتت تشكل مخاوف لواشنطن من خلال رفضها للتمدد الإمبراطوري الأمريكي حول العالم والذي يضعها في مرمى نيرانه وعلى قائمة أهدافه الاستراتيجية، لاسيما أنها تمثل مصدراً رئيسياً من مصادر تزويدها بالنفط والغاز، ومن هنا الخطورة كل الخطورة وخصوصاً بعد ما بدأت موجات اليسار تعلو من جديد على الرايات اللاتينية وباتت وشائج الصلة تمتد وبقوة عبر بكين وموسكو. فعلى سبيل المثال، نجد أن التجارة الروسية مع البرازيل تقارب اليوم 3 مليارات دولار في حين أن الرقم المسجل إبان الحقبة السوفييتية هو 835 مليون دولار، وقد كان جلها ماكينات ومعدات سوفييتية، أما اليوم فالأسمدة تمثل ثلاثة أرباع الصادرات الروسية إلى البرازيل والأرجنتين والمكسيك.
أما عن التعاون الروسي مع القارة اللاتينية في مجال التقنيات الفضائية العالية فحدث عنه ولا حرج، إذ أطلقت المكسيك وشيلي والأرجنتين أقمارها الاصطناعية بواسطة صواريخ روسية.
وفي علاقة البرازيل بالصين نجد أن الأولى أضحت مصدراً حيوياً للمواد الأولية والمنتجات الغذائية التي تستهلكها الصين، وفي السنوات الخمس الأخيرة ارتفع الاستيراد الصيني من أمريكا اللاتينية 60% في السنة.
أما عن فنزويلا ورئيسها هوجو شافيز وعلاقاته الممتدة مع أي قوة وكل قوة رافضة لعسكرة السياسة الخارجية الأمريكية، فقد ذهب بعيداً إلى حد بات يحذر شعبه من احتمالية حدوث اجتياح أمريكي مسلح لبلاده، وعليه فقد بدأ ضباط فنزويليون في قاعدة عسكرية في منطقة ريفية على ضواحي العاصمة كاركاس الاستعداد لمعارك وحروب العصابات. ومن جهة ثانية، هدد شافيز مراراً وتكراراً بقطع نفط بلاده عن الولاياتالمتحدة حال مضيها قدماً في محاولات زعزعة استقرار بلاده، ومعروف أن 15% من إجمالي واردات أمريكا من النفط تأتي من فنزويلا.
هل لهذا السبب، واستعداداً للمواجهة القادمة، بدأ الأسطول الرابع الأمريكي في التحرك؟ ربما يكون في المشهد أحداث أخرى، لاسيما أن دول أمريكا اللاتينية كلها تقريباً قد رفضت التوقيع على وثيقة خدمة الحماية الأمريكية التي تحول دون ملاحقة العدالة الجنود الأمريكيين في الجرائم التي يرتكبونها في الخارج.
وحين أعلنت واشنطن خطتها إنشاء قاعدة عسكرية في الباراجواي في نطاق جغرافي غير بعيد من آبار الغاز ببوليفيا نددت البرازيل والأرجنتين بها وأبلغت الإكوادور البنتاجون أن القاعدة العسكرية الأمريكية في “مانتا" لن يجدد الاتفاق الذي أجاز إنشاءها حين تحل نهايته في عام 2009.
وأمام تحركات الأسطول الأمريكي كان طبيعياً أن يسعى الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا إلى بعث فكرة مجلس دفاعي إقليمي، ويستبعد ضمنا إشراك الولاياتالمتحدة فيه ويعلن وزير دفاعه نيلسون جوبيم عن اعتراضه على الوجود الأمريكي المسلح في مياه المنطقة مؤكداً أننا لا نشعر بالقلق ليفعل الأمريكيون ما يشاءون، لكن من المؤكد أننا لن نسمح لهذا الأسطول بدخول مياهنا". فيما كان شافيز العنيد يرى أن التهديد الأمريكي واضح ومستعلن وتؤكد الرئيسة الأرجنتينية أن التحرك يؤشر لبوادر تدخل أمريكا لتجزئة بوليفيا الأمر الذي ألمح إليه الرئيس ايفو موالرليس في مؤتمر قمة سوق الجنوب الأخير.
هل ما نراه إرهاصات واستعدادات أمريكية جديدة لإعادة بسط هيمنتها على نفط أمريكا اللاتينية الذي يشكل ثلث الواردات الأمريكية، من دون أن نغفل أن القارة اللاتينية تبقى سلة العالم للحبوب والغذاء حول العالم حتى الساعة؟
أغلب الظن أنه كذلك، لكن يفوت واشنطن أن دول القارة ترفض عودة زمان الاستعمار حتى لو كان مقنعاً أو كلفها المزيد من الدماء، كما تغفل أن المشهد الدولي الجديد يمضي في سياق أقطاب متعددة تتجلى فيها دول أمريكا اللاتينية كقوة دولية صاعدة لا كلقمة سائغة لأساطيل أمريكا التائهة حول العالم بحثاً عن الإمبراطورية المفقودة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 2/8/2008