السودان.. بين الغوث العربي وبراثن الاستعمار الجديد! عبد المالك سالمان دخلت أزمة دارفور منعطفاً خطيراً مع قرار المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي اتهام الرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية ضد أجناس واعراق واثنيات قبلية في اقليم دارفور، والمطالبة بإلقاء القبض عليه لمحاكمته في لاهاي. ولا شك ان في دارفور وفي السودان عموماً ، أوضاع متأزمة ومتفجرة في عدة مناطق . لم تكن بحاجة إلى هذه الاتهامات الخطيرة لرئيس الدولة السودانية لتزيد الأوضاع تفجراً وتأزماً، وهو ما يعكس غياب الحصافة والمواءمة السياسية عن قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورنيو أوكامبو، ناهيك عن هشاشة الأسس القانونية التي استند إليها في توجيه تلك الاتهامات، وستكون محصلة هذه الزوبعة السياسية القانونية التي أثارها اوكامبو تعقيد الأزمة السياسية والانسانية في دارفور فضلاً عن النتائج الخطيرة بعيدة المدى على آفاق الاستقرار والسلام في السودان كله. وفي هذا السياق، يتعين إبداء الملاحظات الجوهرية التالية: أولا: انه كان من المستغرب ان يتجاوز المدعي العام أوكامبو كل المبادئ والقواعد المستقرة في القانون الدولي بمطالبته بإصدار مذكرة توقيف في حق رئيس دولة ما زال يمارس السلطة منتهكاً بذلك المبدأ المستقر في الاعتراف بحصانة رؤساء الدول الذين يتولون السلطة في بلادهم، لأن إشاعة مثل هذا السلوك أي توجيه الاتهامات القانونية واجراء المحاكمات لرؤساء الدول اثناء فترة رئاستهم من شأنه احداث حالة من الفوضى في الاستقرار الدولي، ويدمر مبدأ الحصانة السياسية والدبلوماسية الذي كفل باستمرار قدراً كبيراً من الاستقرار في العلاقات الدولية منذ ظهور قواعد القانون الدولي إثر ابرام معاهدة وستفاليا في منتصف القرن التاسع عشر. ويعيد قرار أوكامبو مرة اخرى إلى الاذهان مخاطر "ازدواجية المعايير" في تطبيق العدالة الدولية، فالسؤال الذي تبادر إلى الاذهان بعد تجرؤ أوكامبو على اتهام الرئيس السوداني هو: هل يستطيع اوكامبو ومحكمته الجنائية توجيه مذكرة اعتقال وتوقيف بحق مرتكبي جرائم الحرب في العراق وفلسطين وبالذات إلى رؤساء دول وحكومات في السلطة مثل الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير عن جرائم الحرب الناجمة عن غزو العراق وخاصة الانتهاكات في سجن أبوغريب ومعتقل جوانتانامو؟ أو جرائم الحرب التي ارتكبتها اسرائيل في فلسطين ولبنان وخاصة مجازر صبرا وشاتيلا التي اشرف عليها شارون او مذبحة قانا المسئول عنها بيريز وغيرها؟ أم ان اوكامبو سوف يتذرع بالقول ان هذه الجرائم لا تدخل في اختصاصه او اختصاص المحكمة كما سبق وان فعل عملياً حينما رفض مطالبات كثير من المنظمات الانسانية والحقوقية التي طالبت المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب في العراق؟ هل يمتلك أوكامبو فقط الشجاعة للتجرؤ على السودان ورئيسه لأنه دولة عربية واسلامية وافريقية ومن دول العالم الثالث ، أما القوى الغربية الكبرى فلا يجرؤ على التفكير في محاسبة مجرميها؟ ان اثارة هذه التساؤلات هي أمر حيوي للغاية لأن مسألة العدالة يجب ألا تتجزأ، أما التشدد في تطبيق العدالة على دول نامية ، والتهاون والتجاهل والتغافل عن ذلك بشأن القوى الكبرى فإنه يمثل بداية النهاية للإجهاز على مصداقية المحاكم الدولية وتزايد الاقتناع بأنها مؤسسات تم انشاؤها فقط لحماية مصالح القوى الكبرى على حساب الدول الفقيرة والضعيفة، وتلك في حد ذاتها قناعة تقود إلى كارثة لأنها ستؤدي إلى انهيار تلك المؤسسات الدولية، وعودة قانون الغاب وانهيار القانون الدولي، ولجوء كل دولة للبحث عن العدالة او حماية ذاتها بطريقتها وتكريس ثقافة الإيمان بالقوة فقط على حساب العدالة. وهكذا تقود المؤسسات الحقوقية والقانونية مثل المحاكم الدولية التي تنشئها الأممالمتحدة إلى انهيار المنظومة الدولية للعدالة، وانهيار القانون الدولي بدلاً من تعزيز وتكريس مصداقيته وزيادة الاحترام لها في كل العالم. ثانيا: ان من الغريب ان تصدر هذه الإجراءات من المدعي العام للمحكمة الدولية ضد السودان، وهو دولة لا تخضع لاختصاص المحكمة حيث لم تنضم إليها ولم تصدق على ميثاقها، فكيف يفرض المدعي العام هذه الإجراءات على دولة ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية؟ واذا كان المدعي العام يستند إلى قرار مجلس الأمن الدولي الذي أحال الى المحكمة صلاحية التحقيق في جرائم الحرب في دارفور، فإن هذا لا يكفي لإخضاع السودان لإجراءات المحكمة، ويجعل الامر كله رهناً بالحسابات السياسية وخاصة من قبل الدول الأعضاء الخمس الكبرى في مجلس الأمن الدولي . وبالتالي فإن كل اجراءات المحكمة سوف تخضع للمساومات داخل مجلس الأمن، خاصة ان من صلاحيات مجلس الأمن تأجيل اجراءات المحكمة لمدة عام قابلة للتجديد لمدد مفتوحة. وبامكاننا القول ان روسيا والصين تقع عليهما الآن مسئولية خاصة لإيقاف اتجاهات التهور التي لجأ إليها المدعي العام للمحكمة الجنائية، وبإمكانهما اذا أقرت هيئة المحكمة اتهامات المدعي أوكامبو ايقاف كل ذلك في مجلس الأمن الدولي بعدم اقرار اصدار قرار الاتهام، وخاصة بعد ان بات واضحاً ان أوكامبو يتخذ موقفاً هجومياً ضد النظام السوداني على غرار الموقف الذي تتخذه القوى الغربية من السودان وخاصة أميركا وفرنسا وبريطانيا. ومن جانب آخر، فإن السابقة التي اقدم عليها أوكامبو تجعل الحذر الذي اظهرته معظم الدول العربية في عدم الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية في محله حيث لم تنضم إليها سوى ثلاث دول عربية هي: الأردن وجيبوتي وجزر القمر. فالدول العربية في معظمها كانت تتخوف من تسييس المحكمة الجنائية الدولية لخدمة أهداف القوى الكبرى وهذا ما تبرهن عليه اجراءات أوكامبو حالياً ضد السودان، إذ ثبت ان المحكمة تسير في اتجاه الاجندة الغربية وخاصة الأجندة الأميركية ضد السودان. والغريب ان المحكمة تسير في هذا الاتجاه الأميركي رغم ان اميركا ذاتها ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية وقد قررت إدارة بوش سحب توقيع ادارة كلينتون على المعاهدة المنشئة للمحكمة، وبالتالي أصبحت أميركا خارج نطاق هذه المحكمة، ولكنها تحاول توظيفها عبر مجلس الأمن لخدمة الأهداف والسياسات الأميركية. وكان لافتاً للنظر ان أوكامبو في توجيه اتهاماته إلى الرئيس السوداني قد استند إلى تقارير ومعلومات أميركية بالأساس ، بالإضافة الى ان الاتجاه لتوجيه الاتهام للرئيس السوداني قد تم تسريبه أولاً من داخل الخارجية الأميركية، على الرغم من ان أميركا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية كما سبق ان أوضحنا. وقد اثارت تصرفات أوكامبو التي تتسم بالطابع الإعلامي والدعائي المسيس أكثر من الطابع القانوني شكوك الكثيرين في تنسيقه مع الإدارة الأميركية، على غرار المحقق الالماني ديتليف ميليس الذي كان أول من تولى التحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري في لبنان، حيث كانت تحقيقاته يتم تسريبها إلى الصحف قبل اعلانها، وكلها كانت تصب في توجيه الاتهامات نحو سوريا والقوى الموالية لها في لبنان بما يخدم اجندة السياسية الاميركية ضد سوريا، كما كانت تصريحاته تحفل بالصخب الإعلامي وعقد المؤتمرات الصحفية قبل الانتهاء من اجراءات التحقيق او التوصل إلى اتهامات قاطعة، فهل يريد أوكامبو ان يكرر خبرة ميليس الفاشلة التي كشفها وفضحها من جاء من بعده من محققين مثل بيراميتس وبلمار وغيرهما الذين اتسموا بالهدوء والعقلانية والبعد عن الصخب الإعلامي والسياسي. ثالثا: ان اتهامات أوكامبو الصاخبة للرئيس السوداني لم تراع مطلقاً مصلحة السلام والاستقرار والمصالحة في السودان، وإمكانيات وآفاق التسوية السياسية للنزاع في دارفور، وكأن هدفها وضع الحكومة السودانية في قفص الاتهام لتقوم بالدفاع عن نفسها من خلال التشدد في مسار التسوية السياسية مع المتمردين الذين تجاهلهم أوكامبو ولم يوجه لهم اي اتهامات عن مفاقمة الأزمة أو ارتكاب الجرائم في دارفور، مما جعل قرار اتهامه منذ البداية يتسم بعدم التوازن واثارة الشبهات حوله بشأن ميله إلى التحامل ضد الحكومة السودانية. ويضاف إلى ذلك ان مهمة القوات الإفريقية والأممية في دارفور قد أصبحت في مهب الريح بعد ان هددت الحكومة السودانية بطردها اذا استمرت الاتهامات لأركان النظام السوداني، وهي المهمة التي تم الاتفاق عليها بعد مفاوضات شاقة بين السودان والأممالمتحدة والاتحاد الافريقي. كما ان الجهود الدولية الرامية إلى عقد مؤتمرات لتحقيق المصالحة في دارفور أصيبت بانتكاسة ، حيث من المرجح ان تقود اتهامات اوكامبو بقية فصائل التمرد في دارفور إلى التشدد في مواقفها لاعتقادها بجدوى الاستقواء بالخارج على حساب التوافق مع النظام السوداني الذي باتت تعتقد بإمكانية إسقاطه، وهو امر سيعرقل المفاوضات حول التسوية، بعد ان اقتربت من مراحل متقدمة ولم تبق سوى عدة فصائل وتنظيمات صغيرة يبدو انها تعمل بتحريض من قوى خارجية معروفة لا تريد خيراً للسودان، كما انها استمرأت المتاجرة بقضية دارفور في المحافل الدولية طالما تتلقى أموالاً طائلة للإبقاء على مواقفها المتشددة الرافضة للحل والتفاهم مع الحكومة السودانية، ويكفي ان نشير إلى جماعة "محمد نور" التي رفضت التوقيع على اتفاقية "أبوجا" للتسوية في السودان، ورفضت المشاركة في مؤتمر المصالحة والتسوية في طرابلس، ثم اكتشفنا بعد ذلك انها سوف تفتح مكاتب لها في تل ابيب بإسرائيل. فهل يمكن احترام أمثال هؤلاء والنظر إليهم على أنهم أصحاب قضية انسانية او وطنية أم انهم مجرد بيادق في ايدي القوى الاستعمارية الاجنبية التي لا تريد خيراً للسودان وتسعى الى تمزيقه وتفكيكه واشاعة الاضطرابات في كل أقاليمه؟! وبالتالي يمكن القول ان استمرار التوجهات الخاصة باستهداف رأس النظام في السودان انما تهدف إلى ادامة الأزمة في دارفور لتكون مدخلاً للتدخل الخارجي في الإقليم بهدف فصله عن السودان. وليس بعيداً عن ذلك، ما أبلغه الرئيس الأميركي جورج بوش للرئيس السنغالي عبدالله واد من استعداد اميركا للتدخل العسكري في دارفور اذا استمرت الانتهاكات ضد حقوق الانسان هناك اي أنه من الواضح ان مسألة حقوق الانسان واستمرار الأزمة في دارفور تتخذ ستاراً وغطاء لأهداف اخرى للقوى الاجنبية وخاصة من جانب أميركا وبريطانيا للتدخل لاحتلال دارفور حيث تؤكد دراسات عديدة ان دارفور تسبح فوق بحيرة هائلة من النفط فضلاً عن ثروات هائلة من اليورانيوم وهذا ما يؤكد ان مسألة احقاق العدالة في دارفور أو حماية حقوق الانسان ما هي إلا غطاء لمخطط استعماري يستهدف تقسيم السودان وتمزيقه والسيطرة على ثرواته. ويبدو ان استهداف البشير انما يجيء بمثابة عقاب له على سياساته التي رفضت التعاون مع المخططات الأميركية بشأن استغلال ثروات السودان، حيث فضل اسناد حقوق التنقيب عن النفط في السودان إلى شركات من الصين وماليزيا ورفض دخول الشركات الأميركية المتلهفة لاقتحام أراضي السودان. وفيما يبدو فقد تم استغلال سلطة أوكامبو لوضع الرئيس السوداني في قفص الاتهام، وعرقلة حل ازمة دارفور سلمياً حتى تظل ازمة مفتوحة يمكن للغرب الاستعماري استغلالها في أي وقت للتدخل العسكري في السودان وتفكيكه وتقسيمه، خاصة مع تزايد احتمالات انفصال الجنوب السوداني بانتهاء الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام في الجنوب، واجراء استفتاء لتقرير المصير بين البقاء داخل السودان أو انفصال الجنوب في دولة مستقلة. ويبدو ان اتهام الرئيس البشير في جرائم دارفور هدفه اضعاف نظامه حتى لا يقاوم مخططات التقسيم الرامية إلى فصل الجنوب السوداني واقليم دارفور عن السلطة المركزية في الخرطوم. ولهذا، من العبث النظر إلى مسألة توجيه الاتهام إلى البشير من منظور قانوني حقوقي فقط، بل لابد من النظر إليها في اطار سياسي أوسع يتعلق بمستقبل ومصير السودان في ظل المخططات الاستعمارية الغربية والأميركية خاصة التي تستهدف ثرواته النفطية والمعدنية. ومن هذا المنظور، لا يخالطنا الشك أن اتهامات أوكامبو للرئيس السوداني ليست بعيدة عن المخططات السياسية الغربية بشأن مستقبل السودان، لأنها تجاوزت كل القواعد والأعراف القانونية المستقرة في القانون الدولي وتجاهلت آفاق الاستقرار والمصالحة في السودان ومصير التسوية في دارفور لتجعل النظام السوداني في قفص الاتهام بهدف اضعافه او التمهيد لإسقاطه وغزو السودان فيما بعد تحت ذرائع حق التدخل الانساني وتكريس العدالة الدولية في قضية دارفور. رابعا: ان التحرك العربي لدعم السودان في هذه الأزمة، يجب ألا يتم فقط من باب محاولة التوافق او التواؤم مع الاتهامات القانونية الدولية، كما ظهر في تحرك جامعة الدول العربية مؤخراً، والذي يعتمد محاولة تأجيل الاتهام لمدة عام عبر مجلس الأمن، ولكن ايضاً لابد ان يستشرف منذ البداية الأهداف الاستعمارية التي تحيق بالسودان كياناً ودولة واحتياطاً استراتيجياً للعرب، حيث يمكننا ان نشير بوضوح الى ان الغرب لن يكون مرتاحاً للتوجهات التي ظهرت في السياسات العربية مؤخراً الرامية الى الاستثمار الزراعي العربي في السودان بعد ارتفاع اسعار السلع الغذائية في العالم، بحيث يمكن خلال عدة سنوات أن يكون السودان سلة الغذاء العربي ويمكن العرب من التقدم في مجال الأمن الغذائي. ولذلك فهناك سعي لإدامة أجواء الأزمة وعدم الاستقرار في السودان لإفشال التوجهات العربية للاستثمار في السودان. صحيح أنه يجب تأييد توجه جامعة الدول العربية للإسراع في اتمام المحاكمات لمرتكبي الجرائم والانتهاكات في اقليم دارفور من جانب القضاء السوداني بحيث يتم إبطال الحاجة إلى المحكمة الجنائية الدولية التي لا يخضع لولايتها القانونية القضاء السوداني، لكن يجب ان يواكب ذلك جهد سياسي مكثف عربي وافريقي لإنجاح جهود التسوية السياسية في دارفور بحيث يتم الإعلاء من اعتبارات السلام والاستقرار في السودان في مواكبة لمساعي اقرار العدالة ومحاكمة المجرمين والمسئولين عن انتهاكات حقوق الانسان في دارفور وهو أمر لا يمكن ان يقر به اي انسان في هذا العصر وفي كل حين. لكن في ذات الوقت يجب ان يظل واضحاً في الوعي العربي اهمية الحفاظ على وحدة الدولة السودانية، والتصدي لكل المخططات الرامية الى اتخاذ ازمة دارفور مدخلاً للتدخل العسكري الاجنبي في السودان بهدف تقسيمه او تفكيكه في اطار المخططات الاستعمارية الغربيةالجديدة الرامية الى اضعاف الوطن العربي ككل واخضاعه للهيمنة الاميركية والاستعمارية مرة اخرى. عن صحيفة الوطن العمانية 31/7/2008