أجهد الرئيس الأمريكي نفسه كثيرا وهو يطرح الحل للقضية الفلسطينية، فقد ظن أن الهدية يجب أن تتناسب مع مشقة المشوار الطويل. قطع الرئيس الأمريكي آلاف الكيلومترات ليقول بأن حل القضية الفلسطينية يكمن في رؤيا مفعمة بالأمل. هذا الكلام الشاعري الجميل لا يمكن أن يصدر عن شخص عادي، وإنما فقط عن رئيس أمريكي مثقف وثاقب النظرة ويتمتع بعقلية فلسفية وعملية فذة.
هنيئا لمستضيفيه من الفلسطينيين بهذا الحل العبقري، وبإمكانهم الآن أن يستخفوا بمناوئيهم الذين شنوا عليهم الهجوم تلو الآخر بسبب المسيرة التفاوضية والثقة بالولايات المتحدة. بإمكان السيد أبو مازن الآن أن ينام الليل الطويل، وأن يرى في سباته ويقظته تلك الرؤيا المفعمة بالأمل، وبإمكان رئيس وزرائه ووزرائه ومعاونيه وقادة أجهزته أن يكثفوا من نشاطاتهم ضد الإرهابيين الفلسطينيين لأن الحل قد أصبح في عيوننا الذابلة، ولم يعد للمزايدين مكان يمارسون فيه تجارتهم الوطنية.
ولا شك أن السيد الرئيس أبو مازن قد قرأ عبارات بوش جيدا واستوعب أبعادها الفلسفية والعملية، ولم يجد أمامه إلا تأكيد الثقة بالرئيس الأمريكي رسول المحبة والسلام.
هنيئا للاجئين الفلسطينيين بهذا الحل الإلهامي الذي لا يتطلب من اللاجئ سوى غمض العينين الهادئتين ليلا أو نهارا لكي يرى الرؤيا المفعمة بالأمل فيسرّ بها وتنفرج أساريره ويهدأ باله ويطمئن على مستقبله ويهرع إلى أهله يبشرهم بالخير الأحلامي الذي لم يأت به الأولون أو الآخرون. وهنيئا للقدس التي ستتحول إلى رؤى سماوية تتنزل أوهاما وخيالات على أحبائها الذين يريدون عاصمة لدولة ما زالت صناعتها تدور في تلابيب الأمل المفعم بالرؤيا.
بدا الرئيس الأمريكي وهو يتحدث على شاشة التلفاز وكأنه إبليس. رأيت في عيونه المكر والخداع والكذب، وفوق ذلك، الاستخفاف بالمستمعين. وكان تقديري بأنه كان يقول في داخله: "يا أولاد ...، لقد قبضتم ثمن قضيتكم، وأمطارناكم بسيارات تركبونها، وبهواتف تتفنون في إساءة استعمالها، وبأموال تسرقونها، وبفتات تلقونه على السذج من شعبكم فيصفقون لكم، فماذا بعد هذا تريدون؟"
ربما المشكلة ليست عند بوش الذي يستخف بكل هؤلاء الجهابذة من سياسيي فلسطين، وإنما في المستمعين الذين يتلذذون على كلام يدغدغ تمنياتهم ويبقيهم في غياهب الأحلام والأوهام. ربما لا يستطيع أن يجد الرئيس الأمريكي في العالم من يمكن أن يتحمل الاستهزاء والاستصغار فيأتي إلينا ليجرب حظه بنا. ولا شك أنه حظ عندنا ولدينا وفير، ونحن نطلب من كلامه المزيد.
قارنوا بين مؤتمر بوش الصحفي مع أولمرت يوم 9/1/2008 وبين مؤتمره مع عباس يوم 10/1/2008. هناك تحدث بقضايا جوهرية واستراتيجية وحيوية، وهنا تحدث حسب قناعته بمستوى عقولنا. وصدق القول بأن الناس يحترمون من يحترم نفسه. لا أظن أن السيد عباس ومن معه سيراجعون أنفسهم، فهذه ليست اللطمة الأولى التي يتلقونها من سيد البيت الأبيض، ولن تكون الأخيرة. وكم من هزيمة ألحقتها المصالح بالشخص الذي يحرص عليها على حساب الآخرين، ولو كنا نتعظ من تجاربنا لما كنا بما نحن فيه وعلينا الآن.