العرب ومشروع عبدالناصر أحمد المرشد صادفت ثورة يوليو/ تموز كغيرها من الثورات انتقادات حادة، بل وتشكيكا في شرعيتها أصلا، واتهامات بأنها كانت السبب في كوارث ألمت بمصر والمنطقة لمجرد واقعة قيامها وفقاً لمعسكر خصومها، أو بسبب اخطاء استراتيجية وتكتيكية ارتكبت في مسيرتها وفقاً لبعض أنصارها، أو على الأقل الذين لم يناصبوها العداء. ويكاد يكون مستحيلا أن نصل في سياق محاولة إصدار حكم تاريخي على ثورة يوليو الى كلمة سواء بعد مرور 55 عاما فحسب على قيامها، فما زال المؤيدون للثورة والمعارضون لها كأفراد وتكوينات اجتماعية وسياسية ونظم حاكمة وقوى دولية يتواجدون على ساحة الحركة السياسية. ولابد من تأثرهم بمصالحهم وهم يصدرون أحكامهم على ثورة يوليو وقائدها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. لا يمكن لأحد بداية أن يشكك في سلامة توجهات ثورة يوليو العربية بشأن التحرر والوحدة، وإن كان من الممكن الحوار حول غياب رؤية واضحة لدى الثورة وقيادتها للواقع العربي وسبل تغييره ديمقراطياً، ولا يمكن لأحد أن يشكك في الدور التاريخي الذي لعبته زعامة بقامة جمال عبدالناصر وتوجهاته، لكن الاعتماد المفرط على كاريزما الزعيم حرم السياسة العربية لثورة يوليو من ذراع مؤسسية قوية. وأتاح في الوقت نفسه لبعض العناصر من المحسوبين على ثورة يوليو أن يلعبوا بحسن نية أو من دونها دوراً تخريبياً في تنفيذ تلك السياسة. ولا يمكن لأحد أن ينكر أن ثورة يوليو حاولت في البداية جمع شمل العرب كافة وواصلت هذا المسعى كلما دعت الظروف إلى ذلك، وأنها ليست مسؤولة عن ظاهرة الصراعات العربية - العربية. فهذه الخلافات ظهرت قبل الثورة وبقيت بعدها، لكن الطريقة التي أدارت بها قيادة الثورة بعض خلافاتها مع عدد من النظم العربية لم تكن الطريقة المثلى دائما. كذلك لا يمكن لأحد أن ينكر سلامة التوجه الاستراتيجي للثورة في الصراع ضد “إسرائيل"، لكن الأثر الفادح الباقي معنا حتى الآن لهزيمة يونيو/ حزيران 1967 شكل مطعنا هائلا في انجازات الثورة في هذا السياق. ومع ذلك، فإن الحكم عليها من هذا المنظور يبقى عملا بالغ التعقيد بكل المقاييس. فخصوم ثورة يوليو يرون أن كارثة يونيو 1967 كفيلة بمحو أي أثر ايجابي للثورة في تاريخ المنطقة. ومع ذلك، فإن مثل هذا القول يمكن أن يرد عليه بأن مشكلة “إسرائيل" كانت ميراثا ثقيلا ورثته ثورة يوليو عن حقبة التعبية السابقة عليها، وإن هذا الميراث الثقيل قد أعاق انطلاقها غير مرة وأنها بلورت قبل هزيمة 1967 رؤية استراتيجية سليمة للمواجهة، وأن الهزيمة الفادحة في معركة عسكرية لم تكن من نصيب ثورة يوليو وحدها وإنما طالت نظما ديمقراطية عريقة قبل أن تنتصر هذه النظم في حربها الشاملة ضد خصومها، كما كان الحال بالنسبة لمعظم الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.. وأنها، أي ثورة يوليو، قد سارت على الدرب نفسه في السنوات التالية مباشرة للهزيمة. فتصاعد النضال العسكري ضد “إسرائيل" على نحو غير مسبوق مهد لإنجاز اكتوبر/ تشرين الأول 1973 الذي تم في زمن قياسي بكل المعايير. لقد كان الأفق العربي لثورة يوليو واضحا لدى عبدالناصر منذ البداية، ثم تكشف الأمر على نحو أوضح في فلسفة الثورة بين عامي 53-،1954 وتحدث فيها عبدالناصر عن دوائره للسياسة الخارجية وأعطى الأولوية للدائرة العربية، ولعل نموذجنا في هذا هو افتتاح محطة “صوت العرب" في العام 1953 وتبلور المشروع العربي لعبدالناصر وفقا لأبعاد تتعلق بالتحرر والوحدة إذا نظرنا إلى هذين الهدفين نظرة شاملة بحيث يحمل التحرر مضمونا سياسيا واستراتيجيا واقتصاديا واجتماعيا في آن واحد، وتشمل الوحدة كل ما يتعلق بتكتيل الجهود العربية نحو تحقيق غايات النضال العربي. ففي مجال التحرر، كان مشروع عبدالناصر يتضمن محاربة الاستعمار وتصفيته في الوطن العربي، ومن ثم قدم العون لكافة حركات التحرر العربية بدءا بالعون الاعلامي والدبلوماسي ووصولا الى المساعدة العسكرية. واتضح ذلك بجلاء في حرب التحرير الجزائرية وحرب التحرير في جنوب اليمن. وأما مقاومة عبدالناصر لمحاولات ربط الوطن العربي استراتيجيا بسلسلة الأحلاف الغربية، فكانت حركته الناجحة ضد كل من حلف بغداد في 1955 ومشروع أيزنهاور في 1957 وغيرهما من المشروعات المماثلة. ونحن نتحدث عن الدور العربي لثورة يوليو، علينا تقسيم العرب الى جماهير ونخب. أما الجماهير، فقد اتسق عبدالناصر مع صميم أهدافها، ولذلك أيدته على نحو غير مسبوق في تاريخ العرب الحديث. فالجماهير لعبت دورا فاعلا في تنفيذ المشروع العربي لعبدالناصر وحمايته. فقد لعبت المظاهرات الجماهيرية الحاشدة المضادة لحلف بغداد دورا في إسقاط الحلف. الجماهير نفسها لعبت دورا رائعا وسندا معنويا هائلا لمصر إبان عدوان ،1956 وكانت الجماهير السورية هي صاحبة الفضل الأول في إنجاز الوحدة المصرية السورية في ،1958 وبالمثل كانت الجماهير العربية والمصرية هي التي حمت مصر والنظام العربي من السقوط في أعقاب هزيمة 1967 الفادحة. ومثلت جماهير السودان نقلة نوعية في دعمها لمشروع عبدالناصر، إذ وجهت رسالة واضحة أثناء انعقاد قمة الخرطوم الشهيرة في أغسطس/ آب 1967 لكل من يعنيه الأمر داخل الوطن العربي وخارجه، مفادها أن عبدالناصر مازال زعيم هذه الأمة على الرغم من هزيمة يونيو/ حزيران. كان منطقيا أيضا أن تنسلخ شرائح اجتماعية عليا في المجتمعات العربية من قاعدة التأييد للمشروع بعد أن بدأت تتضرر جراء بعض السياسات والإجراءات التي اتخذها ودافع عنها. وكان منطقيا من ناحية ثالثة أن تعاديه النخب السياسية العربية ذات التوجهات الإسلامية في أعقاب صدامه مع الإخوان المسلمين في مصر. المجال لا يتسع بلا شك أن نسهب في الحديث عن الدائرة العربية لثورة يوليو.. ولكن: هل يمكن أن يسمح لنا خصوم ثورة يوليو بأن نهديها باقة عرفان وامتنان بعد 5_ عاما على انطلاقها؟ وأن نعبر عن إحساسنا الصادق بافتقادنا قيما نضالية أصيلة عبرت عنها وسعت الى تجسيدها في الواقع العربي، فنجحت حينا وأخفقت حينا، لكنها تركت لنا ضوءا هاديا لعلنا أكثر ما نكون حاجة إليه في الظروف الراهنة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 28/7/2007