رضي السماك لعل واحدة من أبرز المفارقات الصارخة في ما وصلت إليه الدول الكبرى الغربية من تقدم في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان عدم اقتران هذا التقدم بسجلها تجاه حقوق الإنسان في العالم، وعلى وجه الخصوص في بلدان العالم الثالث التي خضعت لاستعمار تلك الدول عقوداً طويلة.
وكانت لأجهزة استخباراتها أدوار قذرة في ممارسات انتهاكات فظة تجاه شعوب البلدان المستعمرة، ومنها بلداننا العربية، كما تجلى ذلك على وجه الخصوص في ممارسات أجهزة الاستخبارات البريطانية والفرنسية والإيطالية والاسبانية. وبعد تصفية الوجود الاستعماري في معظم مناطق العالم الثالث خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وما نجم عن ذلك من فراغ في النفوذ الغربي بالمنطقة؛ عملت الولاياتالمتحدة، الصاعدة كقوة عظمى ثانية بعد الحرب العالمية الثانية، على ملء هذا الفراغ، وأصبحت بامتياز ممثلة لما يعرف ب"الاستعمار الجديد" الذي حل مكان الاستعمار الكولونيالي القديم الذي أجبرته حركات التحرر في البلدان المستعمرة على الانسحاب من بلدانها. وكانت المخابرات المركزية الأمريكية المعروفة اختصاراً ب"السي.آي.إيه" من أبرز رؤوس الرماح الضاربة لتنفيذ مخططات السياسة الأمريكية في هذه المناطق والبلدان، ولا سيما الاستراتيجية منها كمنطقتنا العربية الغنية بالنفط وذات الموقع الاستراتيجي المهم.
هذا بالرغم من أن “السي.آي.إيه" إنما أنشئت أساساً مع بدء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي الرأسمالي والشرقي الاشتراكي غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية في منتصف أربعينات القرن الماضي. بعد نحو نصف قرن من الجرائم والأنشطة السرية الوحشية القذرة أميط اللثام مؤخراً عن وثائق ضئيلة جداً توثق ممارسة تلك الأعمال الاجرامية، هذا على الرغم مما هو معروف، على نطاق عالمي لدى المراقبين والمحللين والباحثين السياسيين، ما ارتكبته المخابرات المركزية طوال هذه الحقبة منذ إنشائها من ممارسات وعمليات اجرامية لا حصر لها على امتداد المعمورة وداخل الولاياتالمتحدة نفسها ولا تزال مستمرة ولم تنته بانتهاء الحرب الباردة إثر سقوط الاتحاد السوفييتي قبل 16 عاماً. ومع انه قد صدرت مئات الكتب في هذا الشأن لمئات الباحثين والكتاب السياسيين من مختلف الاتجاهات، ومن ضمنهم أمريكيون، كلها توثق وتبرهن بالأدلة والشواهد الدامغة تورط المخابرات المركزية في الإرهاب الدولي بارتكاب تلك الجرائم والانتهاكات الفظة التي تخرق الولاياتالمتحدة من خلالها القوانين والأعراف الدولية وتنتهك السيادات الوطنية للدول المستقلة..
إلا ان أهمية ما كشف الأرشيف القومي عنه بجامعة جورج واشنطن من وثائق، رغم ضآلة ما كشف، انه يفضح دور زعيمة مكافحة الإرهاب الدولي في ممارسة هذا الإرهاب ذاته. وأهمية هذا الافتضاح انه يأتي من داخل الولاياتالمتحدة نفسها عبر هذه الوثائق الرسمية رداً على أية شكوك أو تخرصات أمريكية رسمية بنفيها. ومن أبرز الانقلابات العسكرية التي خططت لها “السي.آي.إيه" بعناية ونجحت في تنفيذها الانقلاب الذي جرى ضد حكومة الرئيس الإيراني محمد مصدق عام ،1953 والانقلاب على حكومة الوحدة الشعبية المنتخبة في شيلي عام 1973 برئاسة سلفادور الليندي.
وهنالك ما لا يقل عن 50 انقلاباً في البلدان الإفريقية نفذت بتخطيط المخابرات المركزية في العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي. أما من أبرز القادة الذين خططت هذه المخابرات لاغتيالهم، الزعيم الوطني الكنغولي باتريس لومومبا، حيث نجحت في اغتياله والانقلاب عليه، والرئيس المصري جمال عبدالناصر والرئيس الكوبي فيدل كاسترو حيث فشلت مراراً في مسعاها لاغتيالهما. ومع أن الولاياتالمتحدة تزعم منذ سنوات تخليها عن العمليات السرية للاغتيالات وانتهاكات حقوق الإنسان، إلا انه من الثابت ان هذه العمليات مستمرة إلى يومنا هذا، ولعل ما تكشّف منذ شهور قليلة عن وجود معتقلات سرية خاصة بها في عدد من الدول الأوروبية لهو خير مصداق على ذلك، دع عنك الكثير من العمليات السرية الأخرى المفضوحة وغير المفضوحة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 10 / 7 / 2007