إن أنت اهتممتَ بالتفتيش عن ( وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية)، فلن تجد صعوبة في التعرف علي آثار تقول، من هنا مرَّ عملاءُ ال سي آي إيه !. إن أنت نظرتَ في شعار الوكالة، تجد في المركز منه مؤشرَ الاتجاهات الجغرافية، لا يشير إلي الجهات الأصلية (شمال - جنوب - شرق - غرب)، فقط، وإنما إلي الفرعية أيضاً، بل والجهات بين الفرعية؛ فهو يحمل رسالة واضحة : أذرعنا تصلُ إلي كل موقع علي سطح الأرض !. اذهب إلي أي من مواقع الاحتقانات والاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتوقع أن تجد من يشاركك الإحساسَ بأن للسي آي إيه يداً في الأحداث، بل إنك قد تعثر علي أدلة ملموسة تكشف عن نشاط استخباري للوكالة. وأحدث ما تم الكشف عنه كان في منتصف يوليو الماضي، حيث ألقت جهات أمنية باكستانية القبضَ علي الطبيب الباكستاني "شكيل أفريدي"، أحد عملاء المخابرات المركزية الأمريكية في باكستان، بتهمة تنظيم حملة تطعيم وهمية في (أبوتاباد)، المدينة التي لجأ إليها أسامة بن لادن، وكان الهدف الحقيقي من الحملة جمع عينات بيولوجية (دم - أنسجة - إفرازات) تساعد في ملاحقة زعيم القاعدة، علي أمل العثور علي أبناء له أو أقارب، يكشف وجودَهم تحليلُ الحمض النووي (دنا) في تلك العينات، ومقارنته بنتائج تم التحصل عليها مسبقاً لأقارب آخرين معلومين. خليج الخنازير قد فشلت تلك الحملة في تحقيق الغرض منها، وأثارت موجة انتقادات من جانب مجموعات من النشطاء الاجتماعيين والسياسيين ضد الحيلة التي لجأت إليها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والتي تعرض صحة الناس للخطر، وتؤثر علي برامج التحصين الدولية، التي أصبحت محل تشكك في أماكن كثيرة من العالم. ولم ترد الوكالة علي هذا الاتهام، الأمر الذي يراه البعض متسقا مع أساليبها المثيرة للجدل، والمريبة، التي مارستها منذ بدأت نشاطها، قبل أكثر من ستين سنة؛ فقد أصبح أمراً اعتيادياً أن تلتزم الوكالة الصمت تجاه ما يلحق بها من اتهامات، فإن ردت، نفت، علي نحو ما فعلت إزاء اتهامها بملاحقة الزعيم الكوبي "فيديل كاسترو"، الذي ظل مُستهدفاً من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ دخوله إلي هافانا في الثامن من يناير 1959 ليصبح رئيسا لكوبا، وحتي قيامه بنقل السلطة إلي شقيقه، في عام 2008، فقد عدته الإدارة الأمريكية مصدرَ خطرٍ فور استقباله الحار للرئيس السوفييتي " نيكيتا خروشوف"، في أبريل 1959، فقد كان ذلك يعني عند الأمريكان أن السوفييت قد وضعوا قدماً في الجزيرة الكوبية واقتربوا كثيراً من حدود ولاية فلوريدا الأمريكية. بعد سبعة أشهر من عملية (خليج الخنازير) الخائبة، وكانت محاولة لغزو كوبا عن طريق عملاء من الكوبيين المنفيين في أمريكا، قامت المخابرات المركزية الأمريكية بتدريبهم وإعدادهم، ففشلوا في المهمة، وأحرجوا إدارة الرئيس كنيدي، التي لم تلبث أن أنشأت برنامجاً جديداً يهدف إلي تقويض نظام الرئيس الكوبي، أطلقت عليه اسم (عملية النمس)، ويتركز في حملة متعددة الجوانب، تجمع المعلومات الاستخبارية، وتشن حرباً نفسية، متضافرة مع إجراءات سرية أخري، هدفها النهائي التخلص من كاسترو ونظامه المعادي للولايات المتحدةالأمريكية. بالإضافة إلي ذلك، أعطي "ألان دالاس"، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في عهد الرئيس جون كنيدي، الضوء الأخضر لتدبير مؤامرة لاغتيال كاسترو، عام 1960، باستخدام عصابات المافيا الأمريكية، التي حصلت من الوكالة علي (مقدم أتعاب) قدره 150 ألف دولار، وزودت بعدد من الخطط، منها وضع السم في طعام كاسترو، ومتفجرات في محاريات يأكلها، وتسميم السيجار الشهير للزعيم الكوبي التاريخي. وقد نفت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية هذه الاتهامات، وقالت إنها من صنع كاسترو، تضخيماً لذاته. صحفي وعميل قد اعتادت الوكالة أن تطلق علي عملياتها ومهامها ومشروعاتها الاستخبارية أسماءً رمزية، كعملية النمس، و (عملية الطائر المُحاكي)، التي أنشأها في العام 1948 "فرانك ويزنر"، رئيس ما يعرف الآن، داخل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بالخدمة الوطنية السرية، وكان يشارُ إليها أيضاً باسم (مشروع الطائر المحاكي)؛ وهو مشروع دعائي في حقيقته، تم إعداده للتأثير علي وسائل الإعلام الأجنبية والمحلية، وتوجيهها، حسب ما ورد في موسوعة عن التجسس الأمريكي. قد نجح ذلك المشروع، في خمسينات القرن العشرين، في أن يجند 400 صحفي، و25 صحيفة ووكالة أنباء، تفاوتت أنشطتهم بين الحيلولة دون نشر مواد إخبارية بعينها، وبصفة خاصة القصص المثارة حول أعمال مستهجنة قامت بها الوكالة في مواقع مختلفة من العالم، إلي كتابة موضوعات وتعليقات مرضي عنها، وتسخير الصحف ووكالات الأنباء لتكون بمثابة الغطاء لعملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية العاملين بالخارج؛ فإن تأبَّي صحفي علي الدعوة للانضمام إلي ذلك المشروع، لاحقته الوكالة بأعمال التنصت. وردت أسماءُ الصحفيين الذين رفضوا العمل مع الطائر المحاكي، في الفترة من خمسينات إلي سبعينات القرن الماضي، في إحدي وثائق السي آي إيه السرية، وتحمل عنوان "مجوهرات الأسرة" !. في منتصف سبعينات القرن الماضي، تم الكشف عن ضلوع الوكالة في استخدام عقار الهلوسة المعروف باسم (إل إس دي) في عمليات عديدة، جانب كبير منها داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكانت الوكالة قد أطلقت في خمسينات القرن العشرين مشروعا اشتهر باسم (م.ك. ألترا)، رداً علي ما كان يدور الحديث عنه في ذلك الوقت من استخدام السوفييت والصينيين لمواد كيماوية، كأدوات للاستجواب وغسيل المخ. وقد تفرع من ذلك المشروع مشروعٌ آخر، اسمه (عملية ذروة منتصف الليل)، قام ببعض الأعمال القذرة، منها تجريب أنواع من المخدرات، بينها عقار (إل إس دي)، علي مواطنين غافلين لا يداخلهم الارتياب، دون اعتبار لما يمكن أن يصابوا به من مضار صحية، نفسية وفيزيقية. وقد سقط أحد العلماء العاملين في ذلك البرنامج، واسمه "فرانك أولسون" ميتا في العام 1953، بعد أن أعطي، دون أن يدري، جرعات كبيرة من (إل إس دي) أو (حمض لايسيرجيك ثنائي أمايد الإيثايل)، وهو عقار يطغي علي الحالة المستقرة للعقل، ويحتله احتلالاً، أو - علي نحو ما وصفه به ألدوس هكسلي - يفتح (أبواب الإدراك)، فيستولي علي عقل من يقع تحت تأثيره، فييسر كشف الحقائق، أو - علي النقيض من ذلك - يصبح منذرا بالسوء، إذ يحيل المتعاطي خائفاً ذليلاً، مما يجعله عقارا خطيرا، لا ينبغي تداوله باستخفاف، علي نحو ما قامت به وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، فقد كان ذلك، حسب وصف أحد المراقبين، تصرفاً مروعاً من جهتها. الحرب الباردة قد بدأت حكاية الوكالة مع عقار إل إس دي عندما نما إلي علمها في عام 1951 أن شركة الأدوية السويسرية (ساندوز) لديها مائة مليون جرعة من عقار (إل إس دي)، تعرضها للبيع، فتحركت المخاوف الأمريكية التي يغذيها مناخ الحرب الباردة في ذلك الوقت، من أن يسارع السوفييت إلي شراء جرعات ذلك العقار، ويلوثوا بها موارد المياه في مدن أمريكية، فيصيبوا سكانها بالجنون، أو يدفعونهم للثورة في وجه الإدارة الأمريكية؛ فبادر الأمريكيون بالاتصال بالشركة السويسرية، التي تبين أنها لم تنتج غير 40 ألف جرعة، فقط، فاشتروها كلها؛ وبدأ علماء وباحثو الجيش الأمريكي ووكالة المخابرات الأمريكية في إجراء دراسات وأبحاث حول العقار. في العام 1975، عقد الكونجرس الأمريكي جلسات استجواب حول العملية السرية (م.ك. ألترا)، التي تبين أنها تشتمل علي 149 مشروعا فرعياً، يهتم معظمها باستكشاف وسائل جديدة للحرب الكيماوية النفسية. ولم تسفر تلك الجلسات عن نتائج ذات مغزي، إذ التزمت المخابرات المركزية الأمريكية بصمتها المعهود في مثل هذه الحالات؛ واكتشف المستجوبون أن ملفات م.ك. ألترا قد دمرت أو أتلفت، وحل مديرون جدد محل المديرين القدامي، فغابت الحقائق بين أولئك وهؤلاء. ومن العمليات القذرة التي قامت بها الوكالة، واشتملت علي ممارسات طبية مستهجنة، عملية معروفة باسم (ب.ب. نجاح)، وقد أطلقتها الوكالة عام 1954، في أعقاب انقلابٍ رعته السي آي إيه وباركته، أطاح بحكومة "جاكوبو أربينز جومان"، الرئيس المنتخب لجواتيمالا، الذي اختار انتهاج سياسات معادية للشركات الأمريكية؛ وكان لهذه العملية نصيب من اسمها (ب.ب. نجاح)، إذ تحقق لها النجاح فعلاً، من وجهة النظر الاحترافية، إلاَّ أن الغرض من ورائها كان التصدي للتدخل الشيوعي المتزايد في نظام حكم أربينز، بالرغم من ضآلة الدلائل علي هذا التدخل؛ وهي دلائل كان قد تم التحصل عليها عن طريق عملية متابعة سابقة، حملت اسم (عملية ب.ب. التاريخ). قد وجهت انتقادات شديدة إلي الدور الأمريكي في ذلك الانقلاب، ولحق تشوه كبير بصورة الولاياتالمتحدةالأمريكية ووكالتها الاستخبارية، بعدما تم الكشف عن أنشطة استخباراتية أخري، في جواتيمالا وغيرها من دول أمريكا اللاتينية؛ منها استخدام جواتيمالا كمختبر ضخم لإجراء تجارب طبية وصفت بالبغيضة، فيما بين 1946 و1948، منها تجارب تعريض مرضي نفسيين للإصابة بأمراض مثل السيلان والزهري، واستخدامهم كحيوانات تجارب لمعرفة تأثير العقاقير عليهم. وققد تم الكشف عن هذه الأعمال القذرة مؤخراً، الأمر الذي استوجب أن تقدم كل من هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، و كاثلين سيبيليوس، وزيرة الخدمات الصحية والإنسانية، اعتذارا رسمياً للحكومة والشعب في جواتيمالا.