أكتب لي عن بغداد أي بغداد تقصد؟ فهم حيرتي تلك التي تركتها منذ عشر سنوات لم تعد موجودة ولذلك أريدك أن تكتبها . اذن علي أن اذهب الي بغداد من غير أن اغادر منفاي. لطالما امتنعت عن التذكر أو استرجاع شيء ما من بغداد، أي شيء. كانت هناك دائما أشباح منها تغمرني بشعور ممتلئ بالأسي والفقدان. نعم هناك مدن لا تنتظر أحدا، بغداد أعظم تلك المدن. منذ أكثر من نصف قرن ترك اليهود مجبرين بغداد، ولم تكن طريقتهم في مغادرة البلد الذي لم يعرفوا سواه خاصة بهم. بطريقة أو بأخري فان كل من يغادر بغداد لا بد أن يكون مجبرا علي القيام بذلك. لا أحد من المنفيين العراقيين الذين هم اليوم بالملايين يمكنه القول أنه غادر البلد باختياره، مدعوا من قبل مسرات ارادته الحرة. العلاقة بمدينة مثل بغداد هي أسوأ علاقة يرتبط من خلالها المرء بمدينة: عبودية تفصح عن قيودها من خلال لذائذ صغيرة يفتقدها المرء حتي وان كان يعيش في أكثر البلدان رخاء وترفا وتكريسا لكرامة الانسان. كما لو أن العراقي لا يزال ينظر الي العالم من فوق احدي طبقات برج بابل العلوية. كل هذه السهوب الشاسعة ستختفي إن هو هبط من عليائه. لن يكون في امكانه أن يري شيئا. في فقره، في شظف حياته، في شقائه، في لغة الحزن التي تتسلل من بين كلماته، في موسيقي جنونه، في تطرفه المثالي، في تمنعه، في ابائه، في انكساره، في عزوفه، في ضجره، دائما هناك بابل. الوهم الذي يجعله يري العالم مأسورا بنظرة عاشقة يلقيها نبوخذ نصر علي زوجته. أكتب عن بغداد وأفكر ببابل. المدينة الدائرية لم تكن سوي عاصمة لدولة اتخذت من الدين سببا لوصايتها الكونية، غير أن تسامحها نفخ الحياة في روح الاغريق المبادين منذ قرون. لولا بغداد لما عرف العالم الاغريق إلا بصعوبة. بابل هي أخري: مدينة جعلت الكون يدور في فلكها. لا مرآة سوي تلك التي تظهرها مركزا للكون. سيدة العالم. لذلك اجتذبت اليها نبلاء التاريخ ولصوصه، مترفيه وحفاته، اباطرته وشحاذيه، صناعه ومنفذي مؤامراته. كلهم كانوا مواطني حقبة متأنقة ومتشنجة وشرسة انتهت من واقع الدولة لتتبني الفرد صانعا ومدبرا وحكيما وملهما ومبشرا. لم تكن بغداد سيدة العالم غير أنها حرصت علي أن تهب البشرية تعريفا آخر لصناعة التاريخ، يمتزج من خلالها الذهب بالعين التي تنظر اليه. بغداد مدينة تقيم حواسها في الكتب. لا يزال لشهرزادها قوة الاعتراف المضني بالجسد، حاكما ومحكوما. لولا تلك الشهرزاد لفقدت الانثي شيئا من عمارتها المقدسة. منذ أن عرفتها وأنا علي يقين من أنها تنظر الي العالم بعيني شهرزاد. بغداد أنثي. 2 يوم تخلت اليونسكو عن بابل، كان ذلك اسخف يوم في تاريخ البشرية. كان ذلك القرار طريقة غريبة في الاحتجاج علي تشويه المدينة العظيمة من قبل نظام صدام حسين، حيث اقترن ذلك القرار بتخلي المنظمة العالمية عن واجباتها. ولكن هل كانت بابل مجرد أثر تاريخي؟ بابل الفكرة هي التي كانت تقلق. ولم يكن نسيانها الرسمي إلا وسيلة للحد من تأثير ذلك القلق. الأسكندر المقدوني من جهة روما وكورش من جهة فارس كان لديهما القلق عينه. حين تصفحت معجم الكلمات في اللغة الاسوجية بحثا عن معني لكلمة بابل وجدت أنها تعني الهذيان والثرثرة. الا يكفي هذا المعني سببا للقضاء عليها واستئصالها. خارج النظام التقليدي كانت بابل تقيم، لذلك اقترن اسمها بالهذيان. اما الثرثرة فانها تهبها موقعا منفتحا علي العالم بلغاته والوانه وامزجته واطيافه ورؤي حالميه. كانت بغداد أكثر صلابة من بابل غير أنها لم تكن حجرا. يكفي أن أبا نؤاس كان هناك دائما. شارعه المهيب كان يعج بالسكاري الذين يشعر المرء حين ينصت الي مقاطع من كلامهم المحير كما لو أنهم خرجوا لتوهم من أسوار بابل. فهو كلام لا يصف بقدر ما يقول حقائق عن كون لم يتشكل بعد. اولئك السكاري هم ابناء المختبر العراقي وعلماؤه الناتئون أيضا. كان تخلي اليونسكو عن بابل تمهيدا لتخلي العالم كله عن بغداد. منذ عام 1991 لم تعد بغداد وديعة وليست وصية. صارت مجرد خزانة ذكريات منذورة لهلاك محتم. الشجرة اللعينة لم تعد تفكر إلا بالانقضاض علي جذورها. كانت هناك أسباب كثيرة للكفر، كلها وجدت في بغداد فرصة لفك ارتباط وجودنا بالحضارة. منذ ان محيت بغداد والبشرية تجلس علي كرسي هزاز. كانت بغداد هي المنفي المناسب للحضارة مثلما كانت زمن العباسيين وطنا مناسبا لها. وفي المعنيين يكمن شيء من التحليق الجمالي الذي يهب تلهفنا في صفتنا بشرا كثافة الحنين الي الأم، لكن بغداد محيت مثلما محيت بابل من قبل، وقد كانتا نوعا من الأم. لقد حكم علي العالم باليتم. 3 حمل نبوخذ نصر العصا ذات مرة وجلب اليهود الي بابل، في لحظة سميت خطأ سبيا. هي كذبة تاريخية أخري. هناك اسباب كثيرة تدعو الملك العظيم الي الاحجام عن ايواء اعدائه المفترضين. ولكن التوراة كتبت في بابل. وكان اليهود يعيشون منعمين في بغداد والبصرة حتي منتصف الخمسينات من القرن العشرين. بيوتهم لا تزال هناك رمزا لعمارة عراقية فذة تتقدمها نجمة داود التي هي ابتكار عراقي سبق داود بقرون. ولأن التوراة كتبت في بابل فقد كانت مرآة لتشوشها. التوراة تشبه بابل من جهة كونهما يتبنيان الهذيان وسيلة لوصف العالم. بالحواس ومن غيرها هناك عالم يتشكل، مادته الهواء الذي يحيط بفقاعاته بشرا اصطفتهم قوة عليا ليكونوا بناة هذا العالم. هناك في التوراة الوهة هي في حقيقتها مستلهمة من بابل في صفتها محورا للكون. حكاية موسي هي في حقيقتها تنويع علي حكاية سرجون الاكدي. هل نقول: سلبنا اليهود حكاياتنا أو حقائقنا التاريخية؟ شيء من هذا القول هو انكار للتاريخ واستهانة به. لقد كتبت التوراة في بابل. وكان كتبتها بابليين. لنقرأ التاريخ مرة أخري وبطريقة مختلفة. العصا لا تصنع دينا. ولم تكن بابل سجنا. لو كان المنفي جنة لكان للفلسطينيين وهم الشعب الأكثر خبرة في المنافي في عصرنا الحديث أوطان في كل جهات الارض. المنافي لا تصنع أوطانا. كان هناك في بابل بشر مبدعون انحرفوا بالتاريخ في اتجاه الخرافة. 4 لهفي علي العمر القصير/ بين الخورنق والسدير. جملتان من النعمان بن المنذر تختصران المسافة ما بين بابل وبغداد. وهي مسافة كونية قدر لكل عراقي أن يمشيها. غير أنها وفق المقاييس العصرية مسافة لا يسمح لأي عراقي بتجاوزها. دائما كانت هناك رغبة في تحويل الشعب العراقي الي شعب واقعي. وهي رغبة مضادة لحسرة العراقي الأخير النعمان بن المنذر. لقد عاش ذلك الملك حياته كلها ما بين قصرين، ومثله العراقيون عاشوا دائما بين حلمين: ما كانوا فيه وما سيكونون عليه يوما ما. كان حاضرهم منسيا دائما. ولأنهم يعرفون أن بغداد مدينة تنسي فقد قرروا أن يكون النسيان جزءا من سجاياهم. ولكنه نسيان ينعم بمفردات قليلة تدعو الي الأسي وتمعن في الحسرة. مثلما هما جملتا النعمان بن المنذر الشعريتيان. فبغداد التي لا تصل اليها قدم هي بغداد التي لا تقيم علي الأرض. بغداد التي لا تتمكن العين من أن تراها هي بغداد التي انكرت وجودها السموات. ليست بغداد سوي المسافة بين العين والقدم، في العطر بين اليد والزهرة، في الخفق بين جناحي فراشة. بغداد التي أورثت بنيها النسيان هي مدينة مضادة. في كل خطوة من خطواتها هناك لغة لمشاء يمتزج من خلالها الجسد بما يحيطه من هواء. لذلك فان بغداد عصية علي الكتابة والوصف والنظر. مدينة الحواس كلها لا تقيم في حاسة بعينها. شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد ** منشور بجريدة "القدس العربي" بتاريخ 25 يوليو 2007