بين شاعر عربي في العصر الجاهلي ومناضلة أمريكية في عصرنا الهمجي! إنّهم يواجهون طوفان الطغيان لأنهم يعرفون قيمة الإنسان زهير بن أبي سُلْمَي للقتلة: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ.. ديسري فيروز لوزيرة الخارجية الأمريكية: يداك ملطختان بالدماء بقلم: حسن توفيق ما الذي يجمع بين رجل وامرأة، تفصل ما بينهما ألف وستمائة سنة؟.. خيط دقيق ورقيق يمتد من الجزيرة العربية في آسيا حتي واشنطن في أمريكا الشمالية هو ما يجمع بين الاثنين- الرجل العربي والمرأة الأمريكية، فكل منهما يعرف قيمة الإنسان، وكل منهما ناضل بطريقته ووفقاً لزمانه ومكانه ضد الظلم وضد طوفان الطغيان، وكل منهما أدرك أن الحرب العدوانية وباء خطير ومرعب، ينشره المتجبرون والطغاة علي امتداد الأزمنة والأمكنة، وأن منع هذا الوباء يتطلب أن يكون الإنسان أخاً حقيقياً للإنسان، وهذا لا يتحقق إلا إذا أدرك الناس جميعاً أن حكمة العقل هي وحدها التي تميزهم عن الحيوانات، ومن خلالها يمكن أن نتقبل الآخرين، مهما كنا نختلف معهم في العقيدة أو الجنس أو اللون. زهير بن أبي سلمي شاعر عربي، عاش في عصر ما قبل ظهور الإسلام، وهو العصر الذي يسميه كثيرون منا العصر الجاهلي، وقد عاش هذا الشاعر ما يقرب من مائة سنة في الجزيرة العربية، ورأي بعينيه كيف يقتل الإنسان أخاه الإنسان لأتفه سبب أو حتي دون سبب، كما أنه عاصر أحداث حروب داحس والغبراء التي ظلت مشتعلة بين قبيلتي عبس وذبيان، ولم تتوقف إلا بعد دعوات صادقة للسلم وللتآخي، أطلقها كل من هرم بن سنان والحارث بن عوف سيديْ بني مرة، وقد تحمل الاثنان معاً ديات القتلي ويقال إنها كانت ثلاثة آلاف بعير أدياها في ثلاث سنين.. وهذا ما دفع زهير بن أبي سلمي في القرن الخامس الميلادي لأن يمدح كلا منهما، ويشيد بدعوتهما إلي وقف القتال وانتهاج خيار السلام، وفيما يتعلق بدعاة الحروب والمتعطشين لسفك الدماء، فإن زهير بن أبي سلمي أوضح لهم بما يتحلي به من حكمة العقل أن الحروب ليست الوسيلة المثلي لحل الخلافات والنزاعات، حيث قال لهؤلاء: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرجَّم متي تبعثوها تبعثوها ذميمة وتَضْرَ إذا أضريتموها فتضرِم وكان لابد لزهير بن أبي سلمي أن يشيد بالموقف الإنساني الرائع الذي اتخذه كل من هرم بن سنان والحارث بن عوف: يميناً لنعم السيدان وُجدتما علي كل حال من سحيل ومُبرمِ تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقُّوا بينهم عطرَ منشمِ وقد قلتما إن ندرك السلم واسعاً بمالٍ ومعروف من الأمر نَسلمِ منذ أيام قلائل، وخلال متابعتي لإحدي نشرات الأخبار،وجدت نفسي أتذكر زهير بن أبي سلمي علي الفور، حين رأيت سيدة أمريكية تواجه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس داخل مبني الكونجرس، حيث صرخت في وجهها: .. مجرمة حرب.. وأضافت إلي صرختها إن يديك ملطختان بدماء ملايين العراقيين.. . عرفت فيما بعد وبالتفصيل- من خلال موقع البديل العراقي - ان هذه السيدة الأمريكية ديسري أنيتا فيروز تنتمي لمنظمة الميثاق الوردي لنساء السلام وهي منظمة، لا يستطيع أحد أن يصفها بأنها إرهابية لأنها تعارض الحرب الأمريكية ضد العراق، لكن ديسري أنيتا فيروز، ورغم أنها ضد كل أشكال الإرهاب، ستواجه ما قد يفضي بها إلي السجن، بتهمة خرق قواعد نظامية والاعتداء علي رجل شرطة ممن كانوا يتولون حراسة وزيرة الخارجية الأمريكية. ما بين زهير بن أبي سلمي وديسري أنيتا فيروز مسافة زمنية شاسعة تقدر بألف وستمائة سنة، ومع هذا فإني أحسست بوجود خيط دقيق ورقيق ما بين شاعرنا العربي وهذه المناضلة الأمريكية التي تحاول أن تواجه وحشية هذا العصر الهمجي.. وعلي امتداد الزمان ما بين الرجل والمرأة اللذين يدعوان للسلام ويدينان كل أشكال القمع والظلم وقتل الأبرياء، هناك كثيرون من أمثالهما وقفوا بشجاعة ضد الذين انتهكوا حقوق الإنسان، وأولها الحق في الحياة، ومن هؤلاء الكثيرين أتذكر الآن ثلاثة رجال من ألمانيا وفرنسا والعراق. ها هو الشاعر الألماني الكبير برتولت بريشت يوضح طبيعة الحصاد المر للحرب العالمية الثانية، فيذكرنا هو أيضاً بشاعرنا العربي زهير بن أبي سلمي، حيث يختم إحدي قصائده قائلاً: عندما انتهت الحرب الأخيرة كان هناك المنتصرون والمهزومون عند المهزومين جاعت عامة الشعب عند المنتصرين... جاعت عامة الشعب أيضاً! وحين كان الاحتلال الفرنسي للجزائر يقتل آلاف الجزائريين المدنيين ممن خرجوا متظاهرين ومطالبين باستقلال وطنهم، أصدر الفيلسوف الفرنسي الكبير جان بول سارتر كتاباً شجاعاً بكل المعايير، بعنوان عارنا في الجزائر .. وإذا كان الاحتلال الفرنسي للجزائر قد رحل، فإن الاحتلال الأمريكي للعراق ما يزال يجثم علي صدور أبنائه، وما يزال يقتل المدنيين الأبرياء بالصواريخ والقنابل، وحين تتكشف الفضائح يقال إن الأمر مجرد خطأ، فقد كنا نتصور أن هؤلاء المدنيين إرهابيين من القاعدة أو من سواها، وعلي الرغم من أن الشاعر العراقي سركون بولص، والذي رحل عن عالمنا منذ أيام قلائل، لم يكن يقيم في العراق، وإن كان يحمله في قلبه، فإن صرخته التي اختار لها عنوان هذا السيد الأمريكي ما تزال مدوية وقوية: الموت... هذا سيد من أمريكا جاء ليشرب من دجلة والفرات الموت... هذا سيد عطشان سيشرب كل مافي آبارنا من نفط.. وكل ما في أنهارنا من ماء الموت... هذا سيد جائع يأكل أطفالنا بالآلاف آلاف بعد آلاف... بين برتولت بريشت وجان بول سارتر وسركون بولص يمتد نفس الخيط الدقيق والرقيق الذي جمع ما بين شاعر عربي في العصر الجاهلي ومناضلة أمريكية في العصر الهمجي! ** المصدر: جريدة "الراية" القطرية بتاريخ 29 أكتوبر 2007