تمثل أيام العرب اصطلاحا المناسبات التى شهدت أحداثا جساما إما فى صبغة (عربية عربية)، أو (عربية أجنبية)، حيث كان الاقتتال فى هذه الأخيرة متسقا مع حق الكيانات العربية فى مواكبة التوجهات السياسية السائدة فى العالم القديم بعدما نجحوا فى التجمع فى شكل دولة عرفت باسم «مملكة قيدار» نحو القرن التاسع ق.م ومساهمتهم فى صياغة أحداث المنطقة منذ أصبح مصطلح «أريبى» و«أريبو» مفردا أساسيا فى النصوص الآشورية، وحكام العرب مثل جندب وزبيبة وشمس وغيرهم شخوصا أساسيا على مسرح الأحداث. أما ما يستوقفنا فى هذا العرض فهو المواجهات العربية العربية التى من المفترض، وفقا لخط البيان التصاعدى التاريخى أن تنضج سياسيا، بيد أن الأمر جاء على عكس ذلك خلال ثلاثة عشر قرنا ماجت فيها المنطقة بصراعات وثأرات شتى إمعانا فى القبلية والافتخار الأجوف بمطلقات ساذجة مغالى فيها، مثل التعالى على الآخرين أو افتعال صراعات على مقدرات اقتصادية. لتجىء مكاسبهم فى نهاية الصراع عليها بمثابة خسارة مضاعفة بسبب ضياع استفادة أى من الأقوام منها والاستغراق فى المواجهات التى كانت تستمر أحيانا لقرابة أربعة عقود من الزمن. ومع ذلك، فإنه فى ضوء منهج التأريخ المتبع فى الشرق الأدنى القديم فقد أصبحت أيام العرب بمثابة علامات زمنية يؤرخ بها العرب سنى عمرهم أو أهم أحداثهم مثل «يوم حليمة» و«يوم ذى قار» و«وقعة الفيل» مثالا لا حصرا. بيد أنه نظرا لصعوبة استعراض كل أيام العرب والتى تراوحت ما بين 750 يوما و1700 يوم، فلسوف نكتفى فى هذه العجالة بعدد من أشهر أيام العرب مثل أيام «حرب البسوس» و«داحس والغبراء» وبعض أيام «حروب الفجار». فالمتأمل لحرب البسوس نجد أن مفتعلها (وائل بن ربيعة) الشهير بكليب، يتبنى من شواهد الاستفزاز ما يمثل مقدمات لدفع بنى جلدته من العدنانيين فى أتون الاقتتال. فقد اشتط فى أفعاله حتى أنه حرم أن ترد الماء إبل مع إبله أو يمر أحد بين بيوته أو توقد نار مع ناره وألا يغار على أحد إلا بإذنه. ورغم ما عرف عن العرب من إجارة اللهفان وقرى الضيف والتشيع للأهل والأقربين ظالمين أو مظلومين إلا أننا نجد وائل بن ربيعة يشتاط غضبا لمجرد أن ترعى ناقة غريبة مع نوقه، وهى لضيف نزل على ديار أصهاره أو بالأحرى على جساس أخو زوجته وخالتها البسوس التى سميت الحرب باسمها. فقام بقتل الناقة لتدوى صيحات (وا ذلاه) فى معسكر الأصهار الذين اعتبروا قتل الناقة مذلة لهم ومن ثم فالثأر من كليب ذاته والذى وصل لحد قتله هو رد الفعل الذى اتخذه جساس حيال زوج أخته بعدما رفضت البسوس أن يعوضها بقتل عشرة من إبل كليب (وائل بن ربيعة) (أى سيد القوم بناقة). وهكذا بدت نذر الحرب التى كانت أولى خطواتها إعادة زوجة كليب المقتول وأخت جساس القاتل إلى حيها. ثم نقف وقفتين الأولى عند مفاوضات ما قبل القتال والثانية عند أيام هذه الحرب ذاتها. وبالنسبة للأولى نجد أن الوساطة الأولية لحقن دماء الطرفين قد حملت لوالد جساس الذى هرب بعد فعلته ثلاثة شروط وهى: 1 إحياء كليب. 2 الدفع لهم بجساس أو أخيه لقتله 3 أو قتل والد جساس. فكان الرد من الأب بالنسبة للأولى (فلست قادرا عليها). والثانية (لا يدرى بأى أرض حط ولده بعد فعلته فهى أيضا خارج استطاعته) وأردف عليها (والأخ الثانى شديد المنعه ولن يُسلِّم بجريرة أخيه) أما الثالثة التى تخصه فيرى (أنه سيكون أول قتيل إذا بدأت الحرب، فقتله الآن لن يشفى غليلهم) ثم عرض من جانبه الدفع بأى من أبنائه الآخرين لقتله أو دفع 1000 ناقة. ولما فشلت المفاوضات دارت رحى القتال لأربعين عاما فى ست أيام كبرى سميت بأسماء مواقع المواجهة. حتى تدخل ملك الحيرة أو ملك كندة لتحقن الدماء ويقر السلام بعدما سالت الدماء أنهارا وكان من بين المقتولين من طلبت رءوسهم فى المفاوضات ودفعت الديات التى كانت مرفوضة قبل القتال. وليخسر العرب من المال والرجال ما كان يمكن أن يكون لهم زخرا فى مواجهة القوى المحيطة بهم. أما اليوم الثانى فيتعلق «بداحس والغبراء» وهما اسمان لفرسين لسيد عبس (قيس بن زهير) وأيضا قامت بين قبيلتى عبس وذبيان. والسبب كالعادة تفاخر شخص من عبس (اسمه ورد العبسى) بما لدى سيد قومه من خيول كان يباهى بها على العرب طرا حتى ضاقت به قريش فرحل لبنى عمومته وسيدهم (حذيفة الذبيانى)، وقد انساق قيس لذلك التفاخر الذى وصل إلى حد الرهان على أيهما أفضل خيلا قيس أم حذيفة. وذلك بأن يدفع الخاسر 20 ناقة. ونظرا لارتباط الخسارة بالكرامة فقد اضطر حذيفة عندما بدت فى الأفق بوادر خسارة خيله إلى الاحتيال بالإمساك بفرسى منافسه لتعطيلهما. ولما فشلت المحاولة وانتهى الأمر بفوز قيس رفض حذيفة دفع الرهان. ووقعت الواقعة لأربعين سنة اتسع فيها نطاق القتال ليشمل قبائل الجوار، حتى تدخل رجلان من علية القوم فأقرا الصلح وحملا الديات (3000 بعير). أما ثالثة الأثافى فهى المعروفة بحربى الفجار والتى تتسق الأولى فيهما مع سياق هذا العرض، وهى توافه الأسباب وتداعياتها التى لا تتفق عظم نتائجها مع تهافت مقدماتها، فى حين قامت الفجار الثانية لأسباب اقتصادية بحته مما يخرجها عن الإطار الخاص بهذا العرض. والفجار الأولى فى عجالة ثلاثة أيام، الأولى منها سببها نزق رجل من غفار جلس وسط أقرانه واستفزهم بمد رجله دلالة على عزته عليهم. فضربها بالسيف رجل من بنى نضر وقطعها، ولولا تدخل العقلاء لما حقن الدم قبل سيلانه. واليوم الثانى تحرش فيه شابان من كنانة بسيدة من بنى عامر فى سوق عكاظ برفع ثوبها من الخلف بعدما رفضت كشف وجهها لهما وعيَّراها بالقول (منعتِنا النظر إلى وجهك وُجدت لنا بالنظر إلى ظهرك) فتنادى الفريقان بالقتال وسالت دماء حتى توسط عقلاء بنى أمية وتم ترضية بنى عامر. أما اليوم الثالث فسببه تحقير رجل من كنانة لرجل من بنى نضر كان قد أقرضه مالا ولم يوف به الأخير، فلما أعياه الطلب عرض قردا مقابل الدين فى سوق عكاظ دلالة على التحقير لكنانة وهو أمر لم يعجب طرفا ثالثا من بنى كنانة كان فى السوق فقتل القرد بسيفه. وكادت الحرب تدور رحاها لولا تدخل العقلاء. ولعل وقوع هذه الأيام فى الأشهر الحرم ما يبرر خفة حدة المواجهات فيها أو حقنها. هذا غيض من فيض أيام العرب اتسم كما نرى بسطحية التناول وتهافت الدوافع، وما نخلص به فى هذه العجالة بعض الرؤى التى نجملها فيما يلى: 1 إن توخى الأعذار حيال دوافع هذه الصراعات وربطها بقيم الحماسة والفخار والعزة مع عدم التمييز بين هذه الأيام وغيرها من أيام المجد الحقيقى، إنما يفقد هذه القيم بريقها ودافعيتها النفسية لدى أصحابها عند تناول المؤرخين لها. 2 تعد المدونات الشعرية التى جادت بها قرائح المعنيين بهذه الأيام للتعبير عن أحداثها إحدى أهم السمات الإيجابية لها، لا سيما عندما تتوخى الموضوعية وتزكى قيم السماحة والاعتدال بديلا عن العصبية المقيتة مثل معلقة زهير بن ابى سلمى، الأمر الذى يؤكد قيمة الأدب بعامة والإبداع الفنى بخاصة كمصدر من مصادر التأريخ. 3 استمرارية دوافع هذه الأيام من الجاهلية لما بعد الإسلام وتباين أسس تناولها بين العصرين إنما يشى بمدى تمسك العربى بالموروثات العصبية على حساب المفردات العقيدية، وبالتوجهات القبلية على حساب فكرة الدولة سياسيا، مما كان له أبلغ الأثر فى صياغة أحداث المنطقة العربية ومن ثم تاريخها. 4 يتضح من دراسة أيام العرب أن العرب الأقدمين لم يستوعبوا دروس التاريخ، ففى الوقت الذى كان يظن فيه أن ثمة نضجا سياسيا سوف يسم الكيانات العربية بعدما عرفوا شكل الدولة الذى وطئته الحضارات القديمة إذا بردة حضارية (فيما نرى) تعود بهم فى أحايين كثيرة للتجزر والتشرذم والتمسك بأهداب الإستعلاء غير المبرر وما يستتبعه من نزيف المقدرات البشرية والاقتصادية. 5 إن احتفاء المؤرخين المحدثين بأيام العرب على إطلاقها دون تقييمها موضوعيا قد يوقع المعنيين بالدراسات التاريخية فى مغبة التعميم دون الإفراد والتمييز، لا سيما أن العديد من أحداث تلك الأيام وسلبياتها ظلت راسخة فى وجدان العربى عبر العصور تتحكم فى توجهاته الفكرية وبنيته الثقافية والاجتماعية وإنتماءاته السياسية. فهلا وعينا الأمر أم لا تزال على عقول أقفالها؟