هي واحدة من أعظم التجارب المصرفية التي خاضها العالم، على مدار ثلاثين عاماً واجه فيها العديد من المشكلات والتحديات، إلا أنه صمد وواجهها جميعاً، إنها تجربة "بنك الفقر" التي تناولها الكاتب مجدي سعيد من خلال 271 صفحة في كتابه "تجربة بنك الفقر" الصادر عن الدار العربية للعلوم ببيروت. يعرض هذا الكتاب تجربة بنك الفقراء "جرامين" التي بدأها في بنجلاديش أستاذ الاقتصاد بجامعة شيتا جونج الدكتور محمد يونس الحائز على جائزة نوبل. والكتاب إذ يحاول النظر للتجربة من زاوية إسلامية فإنه يرتاد طريقاً مليئاً بالقضايا الشائكة، تتمثل في قضايا القروض وما يتعلق بها من فوائد، والنساء وعملهن، والفقر وكيف يتم التعامل معه. وتقوم فكرة بنك الفقر "جرامين" كما ذكر الكتاب على عدة أسس حيث أنشأ البنك وأسسه عام 1974م دكتور محمد يونس في بنغلاديش وهو الحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 2006م، وتقوم فكرة البنك على منح الفقراء قروض متناهية الصغر لعمل مشروعات صغيرة يتكسبون منها ويسددونها على أقساط، ويعتبر أن القروض والإئتمان هو حق أساسي من حقوق الإنسان، كذلك التوظيف الذاتي للفقراء هو الأساس لعملية التنمية. كما يعطي الأولوية للنساء اللاتي يشكلن 96% من مقترضي البنك، ويعمل على تحسين أوضاعهن في أسرهن بإعطائهن القدرة على التملك. وتتواجد فروع بنك جرامين في المناطق الريفية، فهو يعمل على أساس أن الفقير لا ينبغي أن يذهب إلى لبنك، وإنما على البنك أن يذهب إليه. ويتعامل البنك اليوم مع سبعة ملايين شخص في أكثر من 71 ألف قرية. ويذكر الكتاب أن النظام الاقتصادي للبنك على تقديم القروض للفقراء، دونما ضمانات مالية من صنف تلك الضمانات التي تطلبها المؤسسات المالية. في الفصل الثالث يري المؤلف أن الرقابة المالية وهي الآليات التي تحقق الإنضباط المالي والإداري للبنك ولها مستويات: 1- مستوى الهيكل الإداري في البنك . 2- مستوى المسئوليات الإدارية المختلفة . 3- لجان الأغراض الخاصة . 4- الوظائف الخدمية لإدارة البنك ( مراجعة الحسابات – إدارة صناديق القروض – المتابعة والتقييم – مراقبة الحسابات – الإلتزام بالمحاسبة – كثافة الإشراف- دوائر الحركة الدائمة في البنك ). وينتقل في الكتاب في الفصل الرابع ليحكي المرحلة الثانية لبنك جرامين، والتي جاءت بسبب مرور بنجلاديش بأزمات إقتصادية طاحنة وإرتفاع نسبة الخسائر المادية وعدم قدرة مقترضي البنوك على السداد ومواجهة بنك جرامين لصعوبات شديدة نتيجة هذه الأزمات بدأ البنك في إتخاذ منهجية جديدة لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه بإتخاذ عدد من الخطوات والإجراءات منها: لوحة الرسم: وهو نظام جديد للبنك شارك في صياغته 12 ألف عامل وموظف بالبنك عام 2000 م، الفقراء دائما يسددون وذلك بإفتراض الثقة والإطمئنان إلى قيام الفقراء بتسديد ديونهم. ويتمثل النظام العمومي لجرامين بإعطاء ما يسمى بالقرض الأساسي ثم قرض الإسكان ثم قرض التعليم العالي للمقترضين، فإذا تعثر المقترض في السداد .. يتبع نظام جديد لإخراجه من أزمته فيما يسمى ( بالقرض المرن )؛ ثم خدمة ائتمانية صنيعة الزبون؛ ثم استبدال صندوق المجموعة، فصندوق إيداع المعاش؛ ثم إدخارات أخرى ( وصل مجموعها إلى 60 مليون دولار ) . وتأتي كل هذه الخدمات والإجراءات للتيسير على الفقراء في منحهم القروض أو إعانتهم على تسديدها أو بدأ مشروعات جديدة. ويرى المؤلف جوانب تنموية واجتماعية للبنك غير مباشرة أو منظورة، فالبنك يقوم بدعم الروابط الاجتماعية، وذلك عندما يتكئ في صلب نظامه على "المجموعة" و"المركز" وهي تكوينات من أفراد المجتمع المحليين المتقاربين وقد اختار بعضهم بعضا، حيث يقوم البنك بتنمية الوعي الاجتماعي بمشاكل المجتمع، أي الإحساس الاجتماعي بالآخرين. ورغم أن الكتاب يضم بين صفحاته وفصوله آراء ورؤي لموضوعات وقضايا قد تبدو صعبة وجافة في عين القاريء, حيث أنه يناقش علي سبيل المثال لا الحصر دور المؤسسات النقدية الدولية في تحقيق التنمية في الدول النامية, ويعرض كذلك لرأي الكاتب في طبيعة كل من النظام الاشتراكي والرأسمالي, ورأيه كذلك في دور المشروعات المتناهية الصغر في التنمية المحلية والمؤشرات الحقيقية للتطور في الدخل القومي.. إلي آخر القضايا الاقتصادية التي يتصدي لها الكاتب وهي كلها موضوعات "ثقيلة" و"جافة" للكثيرين, إلا أن القاريء العادي وليس المتخصص مع ذلك كله سينجذب علي الفور ومنذ اللحظات الأولي لصفحات هذا الكتاب. فعبر سطور الكتاب وصفحاته يعيش القاريء تجربة محمد يونس التي يحكيها بإسلوب شيق وجذاب عارضا جميع تفاصيلها وأبعادها ومؤكدا أن علاجه لمشكلة الفقر في العالم نابع من إيمانه التام بان الحصول علي القروض هو حق من الحقوق الأساسية للإنسان!. جدير بالذكر أن الدكتور محمد يونس صاحب تجربة بنك الفقر هو مصرفي بنغالي أسس "بنك جرامين" المتخصص في السلفيات الصغيرة للفقراء والأعمال التجارية المتواضعة التي لا تتأهل للقروض المصرفية المعتادة. وقد اقتسم مع مصرفه جائزة نوبل للسلام لعام 2006 "بسبب جهودهما في محاربة الفقر وخلق التنمية الاقتصادية والاجتماعية من القاعدة". ويذكر أن قيمة الجائزة المالية تبلغ 10 ملايين كرون سويدي (1.7 مليار دولار). ويعتبر هو ثالث بنغالي يفوز بجائزة نوبل للسلام بعد الشاعر رابيندراناث طاغور "جائزة الآداب لعام 1913"، والاقتصادي الدكتور أمارتيا سين "جائزة الاقتصاد لعام 1998"، ومن أشهر أقواله: "سيأتي على العالم يوم يذهب فيه الناس الى المتاحف ليتعرفوا على ماهية الفقر".