علي الرغم من ان محمد يونس عمل سنوات طويلة كاستاذ اقتصاد في جامعات بنجلاديش، ووضع اسس نظام تمويل غير تقليدي يقوم علي تقديم القروض الصغيرة للفقراء، وساهم في اعداد الكثير من الدراسات الاقتصادية حول هذا النظام، فانه لم يحصل علي جائزة نوبل في الاقتصاد بل حصل عليها في السلام. والواقع ان قرار اللجنة التي تقدم جوائز نوبل يلفت النظر الي طبيعة الانجاز الذي حققه هذا الرجل والي ابعاده السياسية والاجتماعية الواسعة. فقد رأي يونس ان الفقراء في بنجلاديش كما هو الحال في الكثير من دول العالم، يعانون من الحلقة المفرغة للفقر، وهي ان دخلهم منخفض وبالتالي فان مدخراتهم قليلة، وبالتالي فان قدرتهم علي الاستثمار منعدمة او ضعيفة للغاية، فيظل دخلهم قليلا ومدخرات قليلة وهكذا. لفت نظر يونس ان بعض النساء في القري القريبة من الجامعة التي يعمل بها، وهي جامعة شيتاجونج بجنوب بنجلاديش يحتجن مبالغ بسيطة ليبدأن مشروعات صغيرة مثل تربية الدواجن او انتاج الالبان او البيض، ولكنهن عاجزات عن الحصول علي هذا التمويل. فعندما يذهب الفقراء للبنوك التقليدية للحصول علي تمويل يجدون ان هناك طريقين وهو اما ان يقدموا ضمانات للقروض وهي غير متوافرة عادة واما ان يطلبوا قروضا شخصية وعادة ما تقدم البنوك مثل هذه القروض لرجال الاعمال الذين حققوا نجاحا في السوق وليس للفقراء الذين يريدون ان يبدأوا من الصفر. وتكون النتيجة هي استمرار الحلقة المفرغة للفقر غير ان يونس رأي انه من الممكن كسر هذه الحلقة ببساطة عن طريق تقديم قروض صغيرة بدون ضمانات للمزارعين اذا كانت لديهم مشاريع قابلة للتنفيذ. وبدأ يونس بتقديم قروض لا تتجاوز قيمتها ال27 دولارا لمجموعة من السيدات في قرية مجاورة للجامعة التي كان يعمل بها في عام 1976. ولان هناك احتياجا شديدا لتمويل المشروعات الصغيرة في بنجلاديش فقد وجد اسلوب يونس كثيرا من المتحمسين له، وتحولت فكرته الي بنك "جرامين" وهي كلمة تعني قروي باللغة البنغالية واصبح اول بنك في العالم يقدم القروض للفقراء الذين لا ترغب البنوك التقليدية في اقراضهم. وعبر سنوات عمله، قدم البنك قروضا لنحو 6.6 مليون فرد 97% منهم من النساء في نحو 700 الف قرية ويشترط البنك ان يتم سداد القرض بالكامل قبل منح اي قرض جديد، وبلغت نسبة سداد القروض فيه 99% وهو مؤشر علي نجاح القروض التي يقدمها البنك. وتحول "بنك جرامين" او بنك الفقراء كما اشتهر الي نموذج تم تقليده في بلاد كثيرة باسماء مختلفة لكن المفهوم واحد: تقديم قروض صغيرة للفقراء لتمويل مشروعات صغيرة تهدف لاخراجهم من الحلقة المفرغة للفقر.. لا سلام دائم مع الفقر. ونعود لقرار لجنة نوبل منح جائزة السلام ليونس، اذ قالت اللجنة في توضيح اسباب منح الجائزة "ان السلام الدائم لا يتحقق الا اذا وجدت اغلبية المواطنين وسيلة للخروج من الفقر". وبمعني اخر لا يمكن تصور استمرار السلام الاجتماعي في دولة اذا كانت اغلبية مواطنيها تعاني من الفقر ولا امل لديها في التغلب عليه فكما يتحقق السلام بين الدول بمنع اسباب الحروب بينها يتحقق السلام داخل المجتمع بنزع اسباب الصراع داخله، وعلي رأسها الفقر. ولهذا استحق يونس جائزة نوبل للسلام فقد بحث عن نموذج تنموي يسعي الي تحرير الناس من عبودية الفقر، وانحياز المؤسسات المالية التقليدي للاغنياء وكما قال تعليقا علي فوزه بالجائزة: "لا أري سببا لان يكون هناك شخص فقير علي ظهر الارض". واستكمالا لمسيرته قرر يونس ان يخصص قيمة ما حصل عليه من جائزة نوبل، التي وزعت مناصفة بينه وبين بنك جرامين، لانشاء شركة تقوم بتصنيع اغذية للفقراء تتميز بارتفاع قيمتها الغذائية وانخفاض اسعارها، ليبدأ رحلة "غذاء الفقراء" كما بدأ من قبل بنك الفقراء