فى عام 1913، وبعد سبع سنوات من محاكمة الفلاحين المتهمين بالاعتداء على جنود جيش الاحتلال فى قضية دنشواى الشهيرة، فكر جلاد دنشواى «إبراهيم الهلباوى» الذى قام بدور المدعى العام أمام المحكمة المخصوصة التى شكلها جيش الاحتلال فى أن يرشح نفسه لعضوية الجمعية التشريعية، ليكون ذلك فرصة، لكى يدافع عن موقفه فى القضية، ويبرر الحكم الذى استصدره من المحكمة بإعدام أربعة منهم وجلد 12 وسجن عشرات، انطلاقاً من أنه كما قال لصديقه د.محمد حسين هيكل كان مجرد محام طلب إليه أن يترافع فى قضية فترافع فيها، وكان مضطراً للقسوة على المتهمين، كما أنه فعل ذلك لينجى مصر من آثار لم يكن يعلمها إلا الله. ذلك منطق رفضه د.هيكل الذى قال له: إن قضية دنشواى لم تكن قضية عادية يدافع «هلباوى بك» عن موقفه منها بأنه أدى واجب المحامى، بل كانت قضية بين مصر وإنجلترا، وقد وقفت سعادتك فيها فى صف إنجلترا، فمن الخير أن تترك الزمن يسدل على موقفك هذا ستار النسيان.. وصمت الهلباوى ولم يرد.. ولم يرشح نفسه! والمنطق الذى قاله د.هيكل، هو المحك الذى ينبغى أن تقاس عليه المواقف فى حرب اليونسكو، سواء كانت مواقف دولة عربية سعت لدى مندوبى الدول العربية الأعضاء فى اليونسكو، لكيلا تصوت للمرشح المصرى، أو كانت حملة شنتها كما قلت فى مقال الأسبوع الماضى أقلام وتيارات سياسية ومواقع إلكترونية وصحف تدعو علناً لعدم انتخابه، وتفبرك بيانات بذلك، تدعى أن مثقفين مصريين وقعوا عليها وتتوجه برسائل إلى الدول العربية والإسلامية بحجب أصواتها عنه. ولم يكن سراً أن إسرائيل وحلفاءها قد قررت منذ اللحظة الأولى للإعلان عن اسم المرشح العربى أن تشن حرباً مضادة ضده عبر تصريحات نشرت فى الصحف المصرية على لسان مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين وتكتيكات انتخابية شملت الدفع بمرشحين لا أمل لهم فى الفوز لتفتيت الأصوات، وضغوط مكثفة على الدول المؤيدة للمرشح العربى لتتخلى عن انتخابه، وحملة صحفية شنتها صحف وأقلام موالية لإسرائيل فى الغرب وبالذات فى فرنسا وألمانيا، لم تتوقف عند موقف فاروق حسنى من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بل تطرقت كذلك للثقافة العربية والإسلامية باعتبارها ثقافة تزدرى حريات الرأى والتعبير وتدعو إلى العنف والتدمير. المسألة كانت واضحة تماما، وليست فى حاجة إلى شطارة أو ذكاوة، لكى يحدد كل إنسان لقدمه قبل الخطوة موضعها، حتى لا يجد نفسه سواء قصد أو لم يقصد، يقف مع إسرائيل فى المعسكر نفسه، يلعب دور الطابور الخامس، وهو بالمناسبة، مصطلح برز عام 1936، أثناء الحرب الأهلية الإسبانية حين وضع الديكتاتور فرانكو خطة لإسقاط الحكم الجمهورى فى موريو، تقوم على اقتحامها من على الجهات بأربعة طوابير عسكرية، اعتماداً على أن المعارضين للحكم الجمهورى والكارهين له، سيدعمونه بطابور خامس افتراضى. ولم يكن ذلك يعنى أن ينتقل المعارضون لفاروق حسنى لأسباب معظمها شخصى والقليل منها موضوعى إلى صف المؤيدين لها، أو للنظام الذى يعمل فى ظله، ولكن أن يتوقفوا عنها مؤقتاً حتى تتوقف الحرب، تطبيقا لقاعدة يعرفها كل الذين لديهم خبرة بالعمل السياسى، هى إعلاء «الموضوعى» على «الذاتى«، وإعلاء «التناقض الرئيسى» على «التناقض الثانوى«، والتفرقة الواضحة بين معارضتنا للنظام الحاكم والمعارك التى يخوضها ضد الأعداء باسم الوطن وتحت راياته، لنعود بعد المعركة فنستأنف تصفية حسابنا معه! وما حدث واضح: دخل هؤلاء بثقلهم الحرب مع إسرائيل ضد فاروق حسنى، وتطوعوا بمد الحملة الصهيونية بما تريد من أسلحة بما نشروه وتولت بعض الجهات كما تقول شادية قناوى سفيرة مصر فى اليونسكو تجميع كل ذلك ووزعته عبر البريد الإلكترونى على الدول الأعضاء فى المجلس التنفيذى، ووصل الاعتزاز بالدور الذى أداه إلى الحد الذى دفع المثقفين الفرنسيين الصهاينة إلى محاولة الاتصال ببعضهم لكى يشتركوا معهم فى التوقيع على بيان ينشر صبيحة يوم الجولة الأخيرة من التصويت.. تعبيرا عن التحالف المصرى الصهيونى ضد مرشح مصر. لم تكن معركة اليونسكو معركة انتخابية بل كانت حربا بين ممثل الثقافة العربية والإسلامية والعنصريين من الصهاينة الأوروبيين والأمريكيين، دارت فصول منها قبل ذلك، حين انسحبت أمريكا من اليونسكو بسبب موقف أحمد امبو مديرها التنفيذى السنغالى من حفريات إسرائيل تحت المسجد الأقصى، وحين حالت أمريكا دون التجديد لبطرس غالى كأمين عام للأمم المتحدة، بسبب تقريره عن مذبحة قانا. ذلك هو الموضوع الذى كان يتوجب على طابور إبراهيم الهلباوى أن يتحاور حوله، أو يكتفى كما فعل بأن يكفى على الخبر ماجور، بدلاً من اللجاج الذى لا يفيد، ولا يبرئ الذين اتخذوا هذا الموقف من المسؤولية عنه.