فى الثالث عشر من يونيو عام 1906 وقعت حادثة دنشواى التى كان مقدرًا لها أن تهز مصر كما لم تهزها حادثة من قبل، إلى حد القول إنها هدمت كل ما حاول اللورد كرومر أن يبنيه طوال 23عامًا بينه وبين المصريين وبخاصة أصحاب الجلابيب الزرقاء «الفلاحون».. وانتهى الأمر إلى الإطاحة بكرومر من فوق عرشه إثر أصداء المأساة وتوابعها فى أوروبا.. ومثلما هبطت الحادثة بكرومر فإنها ارتفعت بمصطفى كامل إلى الذروة. لكن المهم فى تلك القضية ليس الصورة المعتادة التى ترسخت فى الأذهان، باعتبار «دنشواى» رمزًا لجرائم الاحتلال، فما لم تتحدث عنه كتب التاريخ المدرسية يحوى الكثير من الحكايات والملابسات.. لذلك قررنا أن نستعرض هنا أحد هذه الجوانب التى لا يعرفها العامة، ويتعلق بأدوار عدد من المصريين فى المحاكمة الفاسدة والأحكام الظالمة التى صدرت. وعلى رأس المتورطين بطرس باشا غالى، رئيس الوزراء آنذاك، وأحمد فتحى زغلول شقيق الزعيم سعد زغلول، وهو الذى صاغ حيثيات الحكم، وإبراهيم الهلباوى ممثل الادعاء والذى سنعرض له تفصيلاً فى الحلقة القادمة. القصة الحقيقية لأسوأ محاكمة فى التاريخ حينما صدر البلاغ الأول عن الحادث لم يشعر أحد بمدى خطورته وأهميته وتفاصيله. وكان البلاغ يتلخص فى إشارة تليفونية أرسلتها نقطة بوليس الشهداء إلى مركز منوف يقول نصها إن ضباطا من الإنجليز قصدوا دنشواى للصيد فأصابت نار بنادقهم بعض الأهالى وأشعلت النار فى جرن قمح فضربهم الأهالى. أما تفاصيل الحادث فتقول إن 5 ضباط من الجيش الإنجليزى أبلغوا مأمور مركز منوف أنهم يرغبون الصيد فى بلدة دنشواى التابعة لمركز الشهداء بالمنوفية فأجرى لهم المأمور الترتيبات اللازمة وأرسلهم بصحبة أونباشى وترجمان مصرى إلى القرية وذهب الأونباشى لإعلام عمدة القرية بنبأ الزيارة. ولكن الضباط لم ينتظروا عودة الأونباشى وشرعوا فى الصيد، وتجول بعضهم فى أجران القمح وأطلقوا رصاصهم على بعض الحمام فأخطأوا المرمى وأصابوا امرأة تدعى "أم محمد" زوجة محمد عبدالنبى "المؤذن" وطال أحد الأعيرة جرن القمح فاشتعلت فيه النيران وسقطت المرأة مضرجة فى دمائها. واهتاج الأهالى والزوج وهاجموا الضباط ولاذ المعتدى وزميل له بالفرار خوفا من انتقام الأهالى وظل الضابطان يعدوان لمسافة 8 كيلومترات تحت وهج الشمس فسقط أحدهما وهو " الكابتن بول صريعا بضربة شمس ولم يكد نبأ هذا الحادث يصل إلى أسماع سلطات الاحتلال حتى جن جنونها وفقدت اتزانها كما أنها كانت معبأة بالسخط من الشعب المصرى لموقفه أثناء أزمة طابا وانحيازه لتركيا، فاتخذوا من حادث دنشواى فرصة للبطش بالمصريين والثأر منهم. وخف المستر "منشل" مستشار الداخلية إلى موقع الحادث وألقى القبض على مئات الأهالى من دنشواى وما حولها بقصد الترويع وفى 18 يونيو أى بعد 5 أيام من وقوع الحادث نشرت جريدة المقطم - ولم يكن التحقيق قد انتهى بعد تقول إن الأوامر صدرت بإعداد المشانق وشحنها إلى دنشواى وفى 20 يونيو صدر الأمر بتشكيل المحكمة المخصصة التى صدر بها الأمر العالى عام 1895م وتم تحديد يوم 24 يونيو لانعقادها فى شبين الكوم وكان أغلبية أعضائها من الإنجليز أما من كان بها من المصريين فكانوا بطرس باشا غالى وأحمد فتحى زغلول وكان عدد المتهمين 52 وقام لطفى السيد بالدفاع واختار الإنجليز للقيام بدور الادعاء محاميا "مصريا" اشتهر بقدرته وامتيازه وهو إبراهيم الهلباوى الذى استخدم براعته الخطابية فى طلب التشديد على المتهمين واستعمال منتهى الشدة معهم. وفى 27 يونيو من ذلك العام صدر قلم المحكمة المخصوصة التى قضت بإعدام على حسن على محفوظ ويوسف حسن سليم والسيد عيسى سالم ومحمد درويش زهران والأخير استوحى قصته عبدالرحمن الشرقاوى فى شخصية شنق زهران، وتم تنفيذ الحكم علنا فى دنشواى فيما تم الحكم على 2 بالأشغال الشاقة المؤبدة والحكم على آخر بالأشغال 15 سنة ثم حكم بالسجن 7 سنوات على 6 متهمين مع معاقبة كل منهم بخمسين جلدة علنا.