دافع كاتب السطور من قبل عن موقف المخرج المبدع يسري نصر الله عندما كان علي حق، ولذلك يجب نقده ولومه عندما ينحرف عن هذا الحق ويمضي نحو هاوية التطبيع الذي ازداد خطره مجدداً علي نحو يفرض مواجهته. فهناك فرق كبير بين أن يذهب نصر الله الي ما يسمي مهرجان رام الله السينمائي الذي يقام تحت حراب الاحتلال، وأن يشارك في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي، فاختيار مدينة تل أبيب للاحتفاء بها في إطار برنامج "مدينة لمدينة" الذي يقام سنويا ضمن فعاليات مهرجان تورنتو ليس سببا كافيا لمقاطعته ولا لاعتبار المشاركة فيه تطبيعاً مع العدو الاسرائيلي، كما ان حضور نصر الله وقليل من السينمائيين العرب ذلك المهرجان، الذي انتهي قبل ايام، اتاح فرصة للاحتجاج علي الاحتفاء بمدينة تل أبيب وفضح سياسات اسرائيل العنصرية والعدوانية المتوحشة والتضامن مع الشعب الفلسطيني الخاضع لاحتلال استيطاني بشع. ولذلك لم يكن حضوره مهرجان تورنتو السينمائي خطأ، كما لم تكن فيه شبهة تطبيع، بل علي العكس يجوز اعتبار المشاركة في مثل هذه الاحداث نوعا من المقاومة والتعبير عن الحق الفلسطيني - العربي ومواجهة النشاطات الصهيونية التي تسعي الي اقناع المجتمع الدولي بأن الجاني هو الضحية. غير أن الامر يختلف جذريا بالنسبة الي مهرجان القصبة السينمائي في رام الله الذي سيبدأ يوم الخميس القادم 8 أكتوبر ويستمر حوالي اسبوعين كاملين، فالذهاب الي فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني هو احد اشكال التطبيع التي لا يصح ان يكون هناك خلاف عليها، ليس فقط لأن هذا يقتضي الحصول علي تأشيرة دخول من العدو ولكن ايضا لأنه يعني اعترافاً بأمر واقع يريد هذا العدو تكريسه، بحيث تظل صيغة السلطة الفلسطينية الهزلية حلاً لمشكلة الاحتلال وليس للقضية التي صارت مهددة بالتلاشي لأسباب من بينها قوة هذا الأمر الواقع المراد فرضه. ولذلك فالتطبيع المحرم مع العدو قائم لا محالة حتي اذا تحايل المخرج الكبير علي التأشيرة الاسرائيلية بأية صورة من الصور، فاذا فعل ذلك، لن يتمكن من التحايل علي واقع بائس يفرض عليه العامل مع سلطة الاحتلال منذ اللحظة الاولي التي يقف فيها علي الحدود الاردنية إذا ذهب الي الضفة الغربية عن طرقها، سيكون عليه ان يقف عند حواجز عسكرية اسرائيلية يتوقف عددها علي الطريق الذي سيسلكه، وهذا الطريق ستحدده سلطة الاحتلال في الاساس بمشاركة شكلية من السلطة الفلسطينية، وسيضطر عند كل حاجز الي النقاش مع مجرمي حرب يستجوبونه ويبيعون فيه ويشترون، وقد يجدها بعضهم علي الاقل فرصة لإظهار عنصريتهم وعدائهم الانسانية. وعندما يصل في نهاية رحلة مأساوية بالنسبة الي كل من يرفض الاحتلال والعدوان، سيجد مشهداً رسم مجرمو الحرب الصهاينة تفاصيله كاملة تحت ستار التنسيق مع السلطة الفلسطينية التي صارت اجهزتها الأمنية خاضعة في الأغلب الأعم لسلطة الاحتلال من خلال اشراف الجنرال الامريكي دايتون الفعلي عليها، وسيبقي نصر الله، والحال هكذا، اسبوعين في حال تطبيع يؤلم كل من عرف هذا المخرج الفنان ومواقفه السياسية المعادية لكل احتلال وعدوان وعنصرية ودفاعه المتواصل عن الشعب الفلسطيني منذ ان كان احد قادة الحركة الطلابية المصرية حيث تزاملنا في مسيرة نضال جامعي في سبعينيات القرن الماضي. وعندما يحين وقت عرض فيلمه "احكي يا شهرزاد" في ختام المهرجان، سيكون الفنان المناضل قد ارتكب من الاثم ما يمكن ان يشطب تاريخه المجيد في الكفاح من اجل الحقوق الوطنية والديمقراطية والاجتماعية، وهو امر جد مؤلم يدفع الي مناشدته سحب موافقته علي المشاركة في مهرجان سينمائي وهمي لا نتيجة له إلا المساهمة في تضليل المجتمع الدولي واعطاءه انطباعاً بأن الشعب الفلسطيني يعيش في أحسن حال ولا ينقصه شيء حتي المهرجانات السينمائية. ولذلك فليته يفيق قبل أن يسقط في هاوية تطبيع لا يمكن تبريره بأي حال، فهناك ما هو معلوم بالضرورة من التطبيع. والذهاب الي مهرجان تحت حراب الاحتلال هو من هذا النوع، مثله في ذلك مثل التعاون مع شخصيات أو جهات اسرائيلية او عقد لقاءات معها تحت أي ظرف وفي أي مكان أو زمان، فلا يمكن أن يختلف اثنان علي أن استضافة سفير العدو تعتبر تطبيعا سافرا، اينما حدث ذلك وبغض النظر عن أي ملابسات، وكذلك الحال بالنسبة الي زيارة ارضنا الرازحة تحت الاحتلال أيا كان الهدف من هذه الزيارة. إن يسري نصر الله قيمة كبيرة في هذا الوطن، ولذلك ينبغي تنبيهه الي أنه يسير نحو هاوية ويوشك علي السقوط فيها.. لعله يراجع نفسه قبل أن يسقط.