إسرائيل في فينسيا وباريس وتورينو ليست هي يقينا إسرائيل في المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة. وهذه هي احدي الحقائق التي يؤدي إغفالها سهوا أو عمدا, وبحسن نية أو سوئها, الي خلط الأوراق في مسألة التطبيع مع إسرائيل. ولذلك أدي غياب هذه الحقيقة, أو تغييبها, الي نشوب خلاف لا محل له ولامبرر علي الموقف تجاه عرض فيلم شبه طبيعي للمخرجة الإسرائيلية كريين بن رافائيل ضمن وقائع الدورة السادسة لمهرجان لقاء الصورة الذي نظمه المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة أخيرا. فقد اتخذ معظم السينمائيين المصريين المدعوين الي ذلك المهرجان موقفا مبدئيا, عندما قرروا مقاطعته لأن المشاركة في ظل عرض فيلم إسرائيلي تمثل تطبيعا ثقافيا. وهذا هو الموقف الطبيعي, الي جانب كونه موقفا مبدئيا. ولذلك كان غريبا اعتراض البعض عليه بدعوي أن مثقفين مصريين وعربا آخرين يشاركون في مهرجانات سينمائية ومعارض كتب وفعاليات ثقافية دولية بالرغم من حضور إسرائيل فيها. وهذا خلط قد يكون مقصودا أو عفويا بين أمرين لايمكن المساواة بينهما بأي حال. فالمهرجانات الثقافية الدولية, مثلها مثل المؤتمرات السياسية والاقتصادية سواء التي تعقد في إطار منظمة الأممالمتحدة وهيئاتها وأجهزتها أو غيرها من المنتديات ذات الطابع العالمي, تختلف جوهريا عن الأحداث المحلية داخل مصر, أو أي بلد عربي آخر. فإذا غاب العرب عن الفعاليات الدولية لمجرد حضور إسرائيل فيها ستكون هي الرابحة دون أن تبذل أي جهد. ولذلك يعتبر حضورنا فيها ضرورة بشرط عدم التعامل مع أي إسرائيلي يشارك في أحداثها. وحتي إذا اقتضي الأمر ردا علي مايصدر عن مشاركين إسرائيليين, ينبغي ألا يكون هذا الرد موجها اليهم بشكل مباشر, وإنما الي الحضور في مجملهم أو الي المنصة. وإذا كان مسئولو الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل لايفعلون ذلك, فهذا استثناء يتعلق بحالة خاصة, ولايلزم أحدا غيرهم في بلادهم ولا في غيرها. ويختلف ذلك كليا عن فعاليات تقام في بلادنا وعلي أرض وطننا, مثل المهرجان السينمائي الذي يحاول منظموه الفرنسيون أن يقحموا مخرجة إسرائيلية فيه. فوجود مثل هذه المخرجة في مصر هو أصلا أمر غير طبيعي, في الوقت الذي ترتكب دولتها جرائم حرب, وجرائم ضد الانسانية, فضلا عن انتهاكاتها المتصاعدة للشرعية الدولية علي مرأي ومسمع من عالم تضعها القوي الكبري فيه فوق القانون. ولذلك ينبغي وضع حد لهذا الخلط, وإعادة تأكيد الموقف الطبيعي, وليس فقط المبدئي, ضد التطبيع في لحظة ينشط فيها بعض دعاته بمعدلات غير مسبوقة, ولايمكن أن تكون طبيعية. فثمة هجمة مثيرة للانتباه تهدف الي تسويق التطبيع بأساليب جديدة ومبررات مبتكرة. وبدلا من أن يكون تصعيد العدوان علي القدسالمحتلة دافعا للعمل من أجل إحكام محاصرة إسرائيل, إذ ببعض العرب يساهمون ضمنيا في محاولة فك عزلتها عبر الحث علي زيارة المدينة المقدسة بدعوي التضامن مع الشعب الفلسطيني. وبلغ الأمر مبلغا خطرا, عندما جري إقحام الدين للمرة الأولي في هذا المجال. فقد أعلن الداعية السعودي محمد العريفي في بداية الشهر الجاري اعتزامه الذهاب الي القدسالمحتلة لتقديم حلقة من برنامجه( ضع بصمتك) الذي تبثه قناة إقرأ. وبالرغم من أن العريفي اضطر الي التراجع بسرعة, فمن الضروري أن يترك موقفه غير الطبيعي هذا أثرا سلبيا في تماسك الموقف العربي الرافض للتطبيع. ولكن المشكلة ليست في موقف داعية هناك أو عدد ضئيل من المثقفين هنا, وإنما في الشواهد التي تدل علي وجود عمل منظم يهدف الي رفع الخطر الأخلاقي علي مواقف ونشاطات تعتبر تطبيعا مع إسرائيل. ويشارك في هذا العمل مسئولون في السلطة الوطنية الفلسطينية يدعون أن من يزور الأراضي المحتلة إنما يساهم في مساندة القضية. وقد رأينا, مثلا كيف تحرك وزير الأوقاف الفلسطيني السيد محمود الهباش خلال زيارة أخيره الي القاهرة علي نطاق واسع من مشيخة الأزهر الي دار الافتاء الي بعض المحطات التليفزيونية والمؤسسات الصحفية داعيا الي الصلاة في المسجد الأقصي. كما سمعنا مسئولين فلسطينيين يزعمون أن زيارة المسجد الأقصي أشد وجوبا من زيارة المسجد الحرام والمسجد النبوي!! وهم يتحركون في اتجاهات شتي, فإذا لم يفلح الحث علي الصلاة في المسجد الأقصي, فقد تأتي دعوة منتخبات كروية عربية للعب في القدس بنتيجة. ولذلك أصبح خطر التطبيع الرياضي ماثلا. فكان الاتحاد المصري لكرة القدم قد وافق مبدئيا, بكل أسف, علي إرسال منتخبنا الأوليمبي الي القدس أو رام الله لأداء مباراة ودية مع نظيره الفلسطيني في مناسبة يوم الأرض في30 مارس الماضي. ولكن الحكمة تغلبت في النهاية, وقرر المجلس القومي للرياضة تأجيل هذه المباراة الي أجل غير مسمي. ومع ذلك يعيب هذا القرار أنه أرجع الإرجاء الي الاضطرابات في الأراضي المحتلة, وليس الي فداحة خطأ إرسال لاعبينا الي القدس أو رام الله. كما يؤخذ عليه ميله الي الالتواء عبر إعلان تأجيل المباراة, وليس إلغاء الفكرة من أساسها. ومع ذلك, فما أن باءت محاولة استدراج منتخبنا الأوليمبي المصري الي القدس بالفشل, حتي تبين أن محاولة أخري جارية مع منتخب البحرين في الاتجاه نفسه. فقد أعلن قبل أيام أن الاتحاد البحريني لكرة القدم وافق علي دعوة نظيره الفلسطيني لإقامة مباراة ودية في القدس في28 مايو المقبل. والأرجح أن هذه المحاولة ستبوء بالفشل بدورها, وخصوصا بعد أن أعلن بعض لاعبي المنتخب البحريني رفضهم اللعب في القدس وهي تحت حراب الاحتلال الإسرائيلي. غير أن كلا من هذه المحاولات يترك أثرا سلبيا غير ظاهر في طريقة معالجة مسألة التطبيع. ولعل أخطر ما في هذا الأثر هو خلط الأوراق علي نحو قد يربك بعض الشباب العربي, الذي يمكن أن ينطلي عليه الزعم بأنه لا فرق بين فعاليات دولية وأحداث محلية فيما يتعلق بمشاركة إسرائيلية كما حدث بشأن مهرجان المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة. والأكثر خطرا علي صعيد خلط الأوراق هو إدعاء أن زيارة الأراضي المحتلة بما فيها القدس لاتؤدي إلا الي كسر الحصار الإسرائيلي علي الشعب الفلسطيني, بينما الحقيقة أنها لاتقود إلا إلي إعاقة النضال من أجل محاصرة إسرائيل, باعتبارها دولة تمييز عنصري سافر من ناحية ومجرمة حرب من ناحية ثانية. ولذلك كله, تبدو إعادة تثبيت الموقف الطبيعي ضد التطبيع مع إسرائيل ضرورة ملحة لإبقاء قضية فلسطين حية, وللدفاع عن كرامتنا الإنسانية في آن معا.