موسي الدلح وسط حصار امني مكثف لوسط سيناء وخاصة القرية التي يعيش فيها موسي الدلح منسق شؤون البدو بمصنع اسمنت سيناء والمطلوب الأمني لدي أجهزة الأمن يخرج عن صمته يصف حال سيناءوحال أبنائها وحقهم في المواطنة يصف بلغته وبلاغته التي توارثها عن أجداده قائلا ... من تحت ظل الأثل المبارك حيث التين والزيتون في طور سنين وعلي الطريق المؤدي إلي مؤتمر البدو.. توقفت عند مقابر أجدادي الشامخين هناك علي حافة الوادي... والصامدين ضد كل عوامل التعرية والفساد ونبش القبور وانتهاك حرماتها بجرافات المصانع التي تعبأ الرمال المحملة برفاتهم في شكائر الأسمنت لتبني بها جدرانًا عازلة هناك لكي تحمي الصهاينة في فلسطين!! وعن غير ذي بُعد وعلي «ثميلة» الوادي ورد الماء بعض الإبل وسمعت «الحادي» يحدو إبله ويعلها علي الماء بهذه الهجينية «سينا عشقناها وصارت لنا شام.. تخصب بعام وتمحل السبعة أعوام ولو يربطوا العفريت في التيه ما نام في قلب صحراء ما يورَّق لها عود»!! وهنا تذكرت قول «شايبنا» حين شرح لي هذه الأبيات قديمًا، وقال عفريت الشاعر لم يستطع النوم ولكن الشاعر نام كما نامت أجداده والمهمشون من أبناء جلدته.. ناموا وعاشوا لأن الصحراء حين لم تنبت عيدانها أنبتتهم هم لها عيدانًا وجعلتهم أشجارًا مورقة وأعطتهم الطبيعة حكمتها وألبستهم الصلابة من صخورها وعلمتهم الصبر علي الدهر فالدهر إما أن يقبل أو يدبر ولا شيء يبقي علي حاله إلي الأبد.. كالجيوش والغزاة الذين عبروا وديانها ووهادها ذهبوا بعد أن عصفت بهم الرياح فمحت حتى آثارهم من فوق الرمال..!! وتذكرته حين كان يشرح لي أشياء عن الدستور والقوانين المصرية مبينًا لي روعتها النظرية وجودتها لولا سوء تطبيقاتها العملية وصعوبة تنفيذها واقعيا، ونقلها من مكان إلي مكان ومن بيئة إلي بيئة ومن مجتمع إلي آخر.. فلكل مكان تضاريسه، ولكل بيئة ظروفها ولكل مجتمع أنظمته وقوانينه وأعرافه التي تحكمه. وأضاف في مبادئ القانون والدستور المصري المواطنون جميعًا سواء لا فرق بينهم، علي أساس الجنس أو اللون أو العقيدة. وكذلك عرفني أن الحرية هي أن يملك الإنسان مصيره بعد الله، وأن تكون له كل الاختيارات وأن يكون اتفاقه أو اختلافه مع الآخرين طبقًا للرؤية التي يسير عليها والمبادئ والقيم التي يعتنقها والفلسفة التي يعيش بها دون عنف أو تطرف، فالإنسان حر في أن يفعل ما يشاء ويعتقد ما يشاء بشرط أن يلتزم بالقانون دون أن يتعرض للتصنيف أو التهم المعممة والازدراء والتحقير، يمشي في طول البلاد وعرضها دون أن يكون محاصرًا بنظرات الشك والريبة والتوجس، وأخبرني الكثير.. والكثير والكثير، لكنه ركز علي مفهوم المواطنة وقال إن الوعي به هو نقطة البدء الأساسية في تشكيل نظرة الإنسان إلي نفسه وإلي بلاده!! وإلي شركائه في صفة المواطنة لأنه علي أساس هذه المشاركة يكون الانتماء وتكون الوطنية، وأضاف محذرًا وغياب حقوق المواطنة يؤدي إلي تداعي الشعور بالانتماء إلي الوطن، وتباين امتلاك الأفراد لهذه الحقوق يؤدي إلي تفجر قضايا التمييز التعسفي والعنصري ويفكك روابط التكامل الوطني. وأكد لي أن مفهوم المواطنة يجب أن يبني علي الثقافة الوطنية العامة وأن يكون معبّرًا عن حالة التنوع والتعدد الموجودة في الوطن، وألا تقتصر علي ثقافة فئة أو مجموعة معينة، وإنما هي ثقافة الوطن بكل تنوعاته وعناصره، ويكون دور الدولة ومؤسساتها هو توفير المناخ القانوني والاجتماعي وبناء الأطر والمؤسسات القادرة علي احتضان الجميع. تأملت كلمات «شايبنا» بينما كنت ألملم أشيائي البسيطة من فوق الرمال استعدادًا للسير مجددًا علي دروب الصحراء القاحلة نحو المؤتمر، ذلك اليوم الذي يحدونا الأمل في أن يكون يومًا مختلفًا عن كل أيامنا السابقة - فآمل ألا تغيب شمس نهاره إلا فوق تراب سيناء الطاهرة في ملحمة حوار وطنية مصرية خالصة. لا تبغي سوي رفعة الوطن وعزة الوطن وكرامة الوطن، فالجميع واحد والوطن واحد والكرامة واحدة وإن اختلفنا في الألوان واللهجات والأزياء والمذاهب والأفكار إلا أننا تجمعنا في النهاية بوتقة سحرية واحدة هي «مصر».
انطلقت وقد أصبحت أكثر عزمًا وإصرارًا وتصميمًا علي اجتياز المسافات المتعبة وقطع المفازات المرعبة نحو تلك اللحظات الغالية في حضن مصر. وتداعت في ذاكرتي كلمات «شايبنا» وهيئته حين سألته مرة «ليش يا جدّي يقولوا مصر أم الدنيا».. خبط علي صدري وقال «يا ولدي لأن صدرها يتسع للجميع». وقبض قبضة من الأرض وقبلها ثم وضعها في يدي!!